خطط تهجير غزة: النشر والكشف والتوقيت

كشفت صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، أن مجموعة بوسطن الأميركية للاستشارات، بلورت نماذج لتكلفة تنفيذ مشروع حمل اسم “أرورا” (Aurora)، لتهجير الفلسطينيين إلى خارج القطاع، قبل أن تنسحب من المشروع وتفصل اثنين من كبار الشركاء، بعد الكشف عن عملها على خطط بشأن مستقبل غزة بعد الحرب الإسرائيلية.
وفقا للصحيفة فإن شركة بوسطن للاستشارات ساهمت في تأسيس “مؤسسة غزة الإنسانية” المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، ودعمت شركة أمنية مرتبطة بها، وذلك قبل ان تنسحب من المشروع في تداركٍ لإسقاطاته القانونية محليا ودوليا.
في المعطيات:
• تشكل مسألة المساعدات الانسانية البنية التي يقوم عليها “اليوم التالي” اسرائيليا في غزة؛ على اساس هندسة هذه المساعدات وفقا للمخططات العسكرية التي لا تتوقف عند حدود احتلال غزة، بل تهجير اهلها فيما لو سنحت الفرصة، او من اجل خلق فرص للتهجير، او ضمن التصريحات التي اجمع عليها المسؤولون الاسرائيليون في اكتوبر 2023 بأن غزة “لن تعود ابدا كما كانت” بل ان الشرق الاوسط سيتغير جوهريا.
• اسرائيليا تُعتبر مسألة “المساعدات الانسانية” جوهرية واستراتيجية لأنها تتعدى مسألة المساعدات الى من سيدير قطاع غزة مستقبلا. هذا المعيار تتبناه حماس وفي المقابل تتبناه المجموعة العربية ومن ضمنها السلطة الفلسطينية، ولذلك تستحوذ مسألة المساعدات الانسانية على حيز واسع من التخبطات السياسية الإسرائيلية، لكون اسرائيل هي من تسيطر فعليا على غزة ولم تعد قادرة على تجنب الخوض في مسألة “اليوم التالي”، وهي منشغلة في ذلك بموازاة الحرب ومنذ بداياتها.
• تواجه اسرائيل حاليا تحديات واسئلة جوهرية تنعكس في التوتر القائم في الكابنيت بين المستويين العسكري والسياسي؛ هل تحتل كامل القطاع مما يعرّض حياة الاسرى والمحتجزين الاسرائيليين الى خطر شبه مؤكد، وتحد ثان يتمثل في تحول الجيش الى حكم عسكري احتلالي مسؤول عن ادارة غزة. في هذا السياق بدأت تعلو اصوات وازنة تحذر في مثل هذه الحال من احتمالية مواجهة شعبية فلسطينية للاحتلال؛ وهناك خيار ثالث وهو النقل السكاني داخل القطاع وتجميع السكان، نحو 2 مليون في ثلاث معازل يحاصرها الجيش ولا تتعدى مساحتها خُمس مساحة القطاع؛ وخيار رابع وهو التهجير الذي لم يسقط يوما عن جدول اعمال حكومة نتنياهو حتى ولو تعثّر تنفيذه لدرجة تراجع ترامب عنه في اعقاب الموقف العربي وقمة القاهرة الاستثنائية لإعمار غزة والابقاء على اهلها فيها.
• يشكل مخطط “اورورا” إصرارا على فحص قابلية مشروع التهجير بأدوات اخرى. او ضمن ما يطلق عليه في بروتوكولات الحكومة الاسرائيلية “حث السكان في غزة على الرحيل” او “التهجير الطوعي”. وفقا للمخطط ودراسة الجدوى التي قام بها فريق شركة “اوربِس” الامنية في واشنطن نيابة عن معهد السياسات الاسرائيلية (تخليت)، وفقا للصحيفة البريطانية.
• تشير التقديرات الاسرائيلية الى أن نحو نصف مليون فلسطيني معنيين بالهجرة الى خارج غزة وفلسطين. وان نسبة 75% منهم لا ينوون العودة بأي شكل، فيما يسعى مشروع “اورورا” الى توفير دعم مالي اولي بقيمة تسعة الاف دولار لكل منهم تتيح لهم السكن والعيش لمدة عام. لكن في نظرة الى هذا المبلغ فإنه هزيل في اعتبار التكلفة مما يشير الى ان التهجير سيتم الى بلدان فقيرة او الى دول تحكمها انظمة هشة وفاشلة ومستبدة.
• اللافت ان انكشاف أمر المشروع في ايار/مايو الفائت، جعل شركة الاستشارات في بوسطن تفك الشراكة مع المتعاقدين الاخرين وتتنصل من مسؤوليتها عن المشروع الذي نتجت عنه حاليا “مؤسسة غزة الانسانية”، وهي المعتمدة لإدارة المساعدات “الانسانية” في القطاع والتي تحولت مراكزها الثلاثة في لغة الغزيين الى “مصائد قتل الجوعى”.
• بعد انكشاف المخطط، تم توقيفه على الاقل حاليا، لما فيه من انتهاكات بمنزلة جرائم حرب وتطهير عرقي تستدعي مساءلة قانونية امريكيا وامام محكمة الجنايات الدولية.
لماذا النشر وفي هذا التوقيت:
• يشير فضح المشروع وحيثياته من خلال صحيفة فايننشال تايمز” الى وجود جهات معنية بهذا النشر وتوفير المعلومات عنه. كما يأتي التقرير في سياق تزايد الاعتراف الاسرائيلي وحصريا من الجيش بصدد فشل مشروع “مؤسسة غزة للمساعدات الانسانية” واتساع نطاق النشر بما فيها اسرائيليا عن انها بمثابة مصائد الموت للفلسطينيين الجوعى في القطاع؛ كما يأتي النشر في سياق الكشف عن الدور الاجرامي لطواقم في المؤسسة من الامريكيين يقومون بإطلاق النار عشوائيا تجاه الفلسطينيين في مراكز التوزيع.
• يأتي النشر وفضح المؤسسة العاملة وفقا لروح مشروع “اورورا” التهجيري، في سياق تزايد تطرق ترامب الى الوضع الكارثي المزري للفلسطينيين في غزة ويبدو من خلال ما ينقله له مساعدوه، وقلقا منه في تحميل ادارته مسؤولية هذا القتل العشوائي الجماعي من قبل امريكيين بكل تداعيات ذلك سياسيا وقانونيا، كما ومن شأنه ان يبعد عن ترامب احتمالية حصوله على جائزة نوبل للسلام والتي يطمح بها وبشغف.
• توقيت النشر وكشف الحقائق والتي يبدو لا تزال في بدايتها، هو عشية زيارة نتنياهو الى واشنطن. في الايام الماضية التي سبقت الزيارة دار ولا يزال نقاش حاد يكاد يكون منفلتا بين سموتريتش من جهة وقائد اركان الجيش الاسرائيلي ايال زامير التي يوجه له الوزير تهمة الفشل والاخفاق في انجاز الاهداف التي حددها المستوى السياسي للجيش. كما يدور الكثير من هذا التلاسن حول “المساعدات الانسانية” والتي وفقا للجيش يسيطر الغزيين على 99% من حمولة الشاحنات، في حين ان منظومة المساعدات تم تصميمها لتكون بديلا للمنظومات الاممية ومنظومة الهلال الاحمر الفلسطيني.
• من المتوقع ان يكون نتنياهو محرجا من النشر، وأنه سيواجه في واشنطن ضغوطا سياسية عربية على ترامب في هذا الصدد، وحصريا من الوسيطين المصري والقطري وكذلك من السعودية والامارات، بالإضافة الى ضغط حقوقي من الامم المتحدة والمنظمات الانسانية والحقوقية الدولية، ناهيك عن اولويات ترامب بإنهاء الحرب.
الخلاصة:
• تم الكشف عن مشروع “أرورا” لتهجير سكان غزة، بدعم من شركات استشارية وأمنية أميركية، ضمن رؤية هندسة “اليوم التالي” في القطاع.
• يتم استخدام المساعدات الإنسانية كأداة سياسية لتحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بإعادة تشكيل الواقع السكاني في غزة، ومن ضمنها التهجير أو خلق ظروفه.
• مشروع التهجير جُرّب بغطاء إنساني من خلال “مؤسسة غزة الإنسانية”، والتي اتضح أنها تدار بروح عسكرية وتورّطت في انتهاكات جسيمة، منها إطلاق النار على المدنيين أثناء توزيع المساعدات.
• تم فضح المشروع دوليًا عبر تحقيق في صحيفة “فايننشال تايمز”، مما أدى إلى انسحاب بعض الشركات وتجميد التنفيذ، خشية التبعات القانونية باعتباره شكلاً من التطهير العرقي.
• توقيت الكشف ليس عفويًا؛ جاء قبيل زيارة نتنياهو إلى واشنطن، لردع السياسات الاسرائيلية بتركيز سكان القطاع في المعازل نحو تهجيرهم تحت مسمى “انساني”.
• الموقف الأميركي يبدو مزدوجًا: دعم مباشر سابق، وتراجع بعد الانكشاف، ما يسلّط الضوء على مخاطر السياسة الأميركية في الملف الفلسطيني.