حجارة داوود في وجه عربات جدعون..

لفت انتباهي أمس تصريح أبو عبيدة: "لا يزال مجاهدونا ورثة الأنبياء يقذفون بحجارة داود على عربات غدعون فتدمغ جبروت الاحتلال." وهذا مشهد يفيض بالمفارقة التاريخية والرمزية، حيث تستعيد حرب غزة نبوءات الأساطير، لكن بأقنعة مقلوبة لتؤكد على ما ذهب إليه جورج قرداحي حين قال:"الحرب على غزة معركة عقيدة لا معركة جيوش إنها معركةُ وعيٍ وصناعةُ رأي ٍ عامٍّ.". إسرائيل، وهي تحشد قوتها التدميرية في حرب الابادة الجماعية على قطاع غزة المحاصر والمخذول عربياً، إسلامياً وعالمياً، أطلقت على عمليتها العسكرية ألأخيرة اسم “عربات جدعون”، في استدعاء صريح للنصوص التلمودية ورمزية القاضي جدعون من بني إسرائيل الذي قاد بجيش صغير العدد نصراً إلهياً ضد جحافل "مديان". لكنها اضافت للأسطورة الرمزيّة مصطلح عربات لتعطي الحاضر اليهودي كل جباروت القوة والبطش لتشرعن قداسة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة وكأنها تقول: نحن على حق رباني، وعليه النصر مكتوب سلفاً.
لكن المفاجأة جاءت حين أعلنت المقاومة الفلسطينية عن ردها تحت اسم “حجارة داوود” — داوود ذاته الذي كان رمزا لليهود، لكنه في هذا السياق وُظّف ليحمل راية الفلسطيني الأعزل، صاحب الحجر في مواجهة الآلة. فصار داوود، النبي والملك، لا يمثّل إسرائيل، بل يعارضها؛ لم يعد جندياً إسرائيلي في معسكر العربة، بل طفلاً فلسطيني يواجهها بمقلاع.
هكذا، تحوّلت المعركة من مجرد تبادل للنار إلى صراع بين رمزين توراتيين، كل منهما يُستعاد ويُقلب على رأسه، في صراع على الحق، والذاكرة، والمعنى. داوود القديم يقف من جديد، لكن هذه المرة فلسطيني في غزة.
إسرائيل بارعة في تسليح اللغة قبل أن تسلّح طائراتها. منذ تأسيسها، وهي ترفد عملياتها العسكرية بمرويات توراتية: “عمود السحاب”، “السيوف النارية”، “درع الشمال”، والآن “عربات جدعون”. التسمية ليست عبثًا، بل هي رسالة مزدوجة: للداخل، لربط المؤسسة العسكرية بالإرث الديني، وللعالم، لتثبيت صورة اليهودي الذي لا زال يقاتل كي لا يُفنى.
في المقابل، المقاومة الفلسطينية في غزة ، التي غالباً ما يُحصر حضورها في صورة “رد الفعل”، خرجت هذه المرة بمبادرة رمزية مباغتة: “حجارة داوود”. لم تختر اسماً عربياً أو إسلامياً، بل ذهبت إلى عمق الرمز العبري نفسه، وسحبته من ذاكرة الإسرائيلي، لتضعه في يد المقاوم الفلسطيني. هنا، لا تواجه إسرائيل بالسلاح فحسب، بل تهاجم برموزها.
ما يحدث ليس مجرد استعارة، بل إعادة توزيع للأدوار التوراتية في الزمن المعاصر. إسرائيل التي لطالما قدّمت نفسها كداوود في مواجهة جالوت العربي، لم تعد كذلك. هي الآن الجيش الأقوى، الطيران الساحق ، والآلة المدمّرة التي لا يقف في وجهها سوى شعب اعزل خذله القريب والبعيد إلا مقاومة صغيرة العدد وضعيفة التسلح ولكنها مدججة بعقيدة وأمان تعول على تحريض طوفان الوعي الإسلامي الشعبي ودخوله المعركة لحسمها. ويستحضرني هنا ما قاله موشي ديان وزير الدفاع الاسرائيلي الأسبق : إسرائيل ستخسر الحرب في حالة تحولها إلى حرب عقيدة بين الإسلام واليهودية لأن الصراع الديني لا يعرف حلول الوسط. ومن يلمس الوعي الشعبي الإسلامي بكل اطيافه وألوانه ولغاته وشعوبه في ديار مكة في هذا الحج الأخير يفهم بالعمق تخوف موشيه ديان وتعويل المقاومة على موجات طوفان الوعي الإسلامي الشعبي في سياقه الاستراتيجي.
المفارقة هنا هي إن الطرف الذي يحاكي داوود الحقيقي – الفتى الصغير الذي قهر العملاق – هو الفلسطيني، الذي لم يكن له سوى ما تتيحه الأرض: حجر، وصاروخ بدائي، وكثير من الإيمان. وعليه، فإن استخدام “حجارة داوود” كاسم لعملية مقاومة، ليس مجرد سخرية من السردية الصهيونية، بل قلبٌ كاملٌ لها.
نعم ما ارادت قوله المقاومة الفلسطينية وبذكاء خارق:
في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، لا تُحسم المعارك فقط بالسلاح، بل بالسرد أيضاً. من يملك الرواية؟ من يُقنع العالم بأنه المظلوم؟ من يستطيع أن يلبس عباءة الضحية التاريخية؟ إسرائيل تفهم ذلك جيدًا، ولذلك تحتكر رموزها وتُصدّرها سياسياً وثقافياً. لكن المقاومة بإطلاق عملية التصدي تحت إسم “حجارة داوود” كسرت هذا الاحتكار. لقد حدث خلخلة في البنية الرمزية. لم يعد الرمز التوراتي امتيازاً صهيونياً. وكأن الفلسطيني الآن يدخل التوراة من بابها الجانبي، ويعيد تأويلها، لا ليخونها، بل ليحررها من حصرية التأويل الإسرائيلي.
اللافت في كل هذا، أن الطرفين يتحدثان بلغة واحدة، لكن من موقعين متضادين. وكأننا أمام صراع داخل النص التوراتي المقدس نفسه. نصّ لم يعد ثابتاً، بل حيا، يُستعاد ويُعاد تأويله من جديد. وعليه في زمن تختلط فيه الحقيقة بالرمز، وتُقصف المدن بالأسماء قبل أن تُقصف بالقنابل، تصبح التسمية سلاحاً ثقافياً لا يقل فتكاً عن الرصاصة. وها هو داوود، يعود ليُقاتل من جديد… لكن هذه المرة فلسطيني من الطرف الآخر للسرد.