“مؤسسة غزة الانسانية” منظومة سيطرة وتهجير

تم يوم 25 أيار/مايو الإعلان عن إرجاء بدء العمل في إطار الشركة الامريكية الاسرائيلية “مؤسسة غزة الانسانية”.
يقوم تصميم بنية خطة “المساعدات الانسانية” في غزة على اساس بنية مخطط الاصابع الخمس الذي قدمه قائد المنطقة الجنوبية في حينه ارئيل شارون الى رئيسة الوزراء غولدا مئير، وذلك بمرور نحو اربع سنوات على احتلال العام 1967. قضت الخطة الى بتر قطاع غزة من اقصى شماله في بيت لاهيا ولغاية شمال سيناء المحاذي لغزة والذي كان تحت الاحتلال الاسرائيلي. سعت الخطة الى منع التكامل السكاني الفلسطيني والى تقطيعه بالمستوطنات الزراعية اساسا، وفصله عن مصر من خلال مستوطنات “منطقة ياميت” على الاراضي المصرية. مخططات التهجير للغزيين ليس بجديدة بل تعود الى سنوات الخمسين من القرن الماضي، والتي قضت بتهجير الفلسطينيين من غزة الى سيناء وتوطينهم وضم القطاع بالكامل. فيما ت خارطة للتحكم وليس للاغاثة التي وفقا لكل التقارير المهنية من غير الممكن ان تقوم على النقل السكاني الدائم، بل تشكل بنية تهجير حقيقية.
تعود مخططات المساعدات الانسانية الى اواخر العام 2023 ضمن ما بدأ يرشح من قيادة الاركان وبالتنسيق مع وزير الامن السابق غالنت في حينه بشأن كيفية ادارة قطاع غزة عسكريا. كان المخطط التجريبي الاول في هذا الصدد والذي بدأ فعليا ببتر قطاع غزة سعيا لتحويله الى مربعات سكنية تبدأ في حي الزيتون في مدينة غزة. سبق هذا المخطط “خطة الجنرالات” والتي اتت في اطار مسعى تطبيقي للمخطط.
المخطط الاخر جاء ايضا بمبادرة امريكية اسرائيلية وبالتنسيق بين ادارة بايدن وحكومة نتنياهو، وهو مخطط الرصيف العائم الامريكي على الشاطيء مقابل مدبنة غزة والذي تم انجازه يوم 16 ايار 2024. وفقا للناطق العسكري في حينه فإن “الرصيف العائم سيتيح ادخال المعدات الانسانية التي تم تجميعها في قبرص وتنقلها السفن الامريكية، مما يعزز المساعي الاخرى بادخال المساعدات من البر”. اعتبر الناطق العسكري بأنه “الى جانب العمليات الهجومية الواسعة ف..فإن تعزيز المساعي الانسانية يتيح نوسيع الحرب”. بعد اقل من شهرين وبتاريخ 11 تموز 2024 اعلن الجيش الامريكي تفكيك الرصيف بعد ان حالت الرياح والامواج دون عمله، وتم نقله الى ميناء أسدود.
بتاريخ 23/5/2025 عمم الاعلام الاسرائيلي بأن المنظومة الامريكية للمساعدات الانسانية لغزة والتي تقوم بتنفيذها “مؤسسة غزة الانسانية” GHF لن تبدأ عملها المزمع بتاريخ 25/5 وسيتم ارجاء التطبيق نظرا لعوامل تنظيمية. فيما ان الارجاء هو كما يبدو جزء من سياسة وليس لدوافع فنية، كما انه يعكس الورطة الاسرائيلية الاحتلالية في غزة والتي يتم تدفيع كامل الثمن فيها للفلسطينيين.
وفقا للمخطط والذي كشفه تقرير الواشنطن بوست 23/5 فإن الغاية هي تشكيل منظومة “انسانية” تشكل بديلا للامم المتحدة والمنظمات الانسانية التابعة لها. بل يكشف التقرير الرابط الاسرائيلي من وراء هذه المؤسسة والذي تمّ اخفاؤه لتحاشي وضعية “تبدو فيها الولايات المتحدة وكيلا اسرائيليا”. ثم يتضح ان احد رواد الفكرة والمشروع وفقا للصحيفة الامريكية هو ليران تنكمان ضابط الاستخبارات العسكرية الاسرائيلي السابق وصاحب فكرة التحكم عن بعد مئات الامتارمن خلال التشخيص البيومتري والمعتمد على الذكاء الاصطناعي والتيقن من هوية الفلسطينيين المتدفقين لتلقي رزم الاغذية في مراكز التوزيع المقامة على المحاور العسكرية الاربعة التي تبتر قطاع غزة، والتي يقوم الاحتلال بتسويقها على انها تحول دون عودة الفلسطينيين الى بيوتهم وبلداتهم بما تبقى منها، وذلك “حفاظا على ارواحهم والى حين يتم توفير الامان” لهم بالعودة. فيما يشاركه في المخطط ميكل ايزنبرغ رجل الاعمال الاسرائيلي الامريكي، والمعروف وفقا للتقارير اعلاه بتوجهه العدائي للمنظمات الاممية الانسانية، ويرافقهما مجموعة من ضباط مكتب “منسق اعمال الحكومة في المناطق المحتلة” وفي “الادارة المدنية”، وكذلك ضابط كبير في جهاز السي اي ايه الامريكي كان مسؤولا عن فرع افغانستان في وكالة الاستخبارات الامريكية. في بنيتها لا تختلف المنظومة الامنية لمؤسسة غزة الانسانية عن شركات المرتزقة وأشهرها بلاك-ووتر المؤلفة من ضباط وجنود امريكيين سابقين ممن حاربوا كمرتزقة في العراق وافغانستان على اساس جني الارباح الفاحشة. وفقا للصحيفة فإن “مؤسسة غزة الانسانية” نجحت في توفير 100 مليون دولار تبرعات من احد الممولين الاسرائيليين الذي يرفض الكشف عن اسمه، علما بأن هذه التبرعات هي استثمارات تعود على “المتبرع” بالارباح الطائلة.
على خلفية التوتر بين ادارتي ترامب ونتنياهو وتصريحات ترامب حول المجاعة والوضع الكارثي في قطاع غزة، وضرورة وقفه، بادر الكابنيت الاسرائيلي يوم 13/5 وبإجماع مغاير للتصريحات بالتصعيد التجويعي التي سبقته ، وأطلق نتنياهو صيغة “المساعدات الانسانية التي تتيح الانتصار الساحق على حماس”. شدد نتنياهو على محاذيره بأن لا تسيطر حماس على المساعدات، وعلى استبعاد المنظمات الدولية وعلى المعايير الامنية باعتبار المساعدات تشكل آلية لاضعاف حركة حماس مدنيا.
تندرج مسألة الجوع القسري باعتباره استراتيجية حربية في الموقف الاوروبي الذي تتصاعد لهجهته باتجاه فرض المساعدات الانسانية ومن خلال المنظمات الانسانية الاممية ووكالة غوث اللاجئين الاونروا. تتبلور الضغوطات في حال اتاحت لها واشنطن نحو اتخاذ قرار ملزم في مجلس الامن ووفقا للبند السابع بادخال المساعدات ووقف الحرب. كما تتعزز هذه التحركات عشية المؤتمر الدولي لحل الدولتين في نيويورك منتصف يونيو وبرئاسة سعودية وفرنسية. فيما تكثر التصريحات الاسرائيلية بضرورة استبعاد فرنسا من اي مجهود دولي تحت مسمى المساعدات الانسانية.
بدورها ترفض المنظمات الاممية الانسانية الانضواء تحت مشروع “مؤسسة غزة الانسانية” وترفض معاييرها في الاغاثة باعتبار ان عاملي المنظمات الانسانية لا يقبلوا مبدئيا وقانونيا العمل الانساني تحت حراسة عسكرية وبالطبع لا يتعاونوا مع منظمات المرتزقة والتي في طبيعتها تقوم على انتهاك حقوق الانسان وحياة الناس مقابل المال، كما ان المنظمات الاممية تعارض التفتيش البيومتري.
في المقابل يقوم موقف الجيش الاساسي الامتناع عن الانشغال في المساعدات الانسانية باعتبارها تستنزف طاقاته وتعرض الجنود للخطر، كما ان الجيش يرى بالأمر اعلان حكم عسكري اسرائيلي مستدام دون قرار حكومي بشأن مستقبل قطاع غزة. بل اشار قائد الاركان الاسرائيلي زمير الى انه لا يعرف طبيعة توزيع الادوار بين الجيش وبين الاطر الاخرى الشريكة. بل هناك تقديرات امريكية بأن الجيش الاسرائيلي معني بإفشال هذه الالية التي تورطه عملياتياً وقانونيا.
يبدو ان نتنياهو أخذ يدرك حجم الورطة من وراء مشروع لن يؤدي الا الى تفاقم الكارثة الانسانية المفروضة على غزة، ونتيجة لضغط الجيش والضغط الدولي لا يجد نتنياهو من خيار سوى اعتماد المنظمات الانسانية الاممية، في ادخال المساعدات الانسانية غير الغذائية. وقد بدأت بوادر التعثر الاسرائيلي في خطة المساعدات الانسانية. وعللا اساسها الورطة السياسية الداخلية في الائتلاف الحاكم الذي يعارض اية بدائل.
للخلاصة:
منظومة “مؤسسة غزة الانسانية” هي في طبيعتها منظومة احتلال وسيطرة وبنية تهجير، ولا تضمن غوث الفلسطينيين ولا انهاء الحرب عليهم بل تشكل آلية لاستدامة بتر قطاع غزة سكانيا وجغرافية حتى الاجهاز عليه.
الخطاب الدولي والعربي والفلسطيني القائم على اولوية وقف الحرب واغثة سكان قطاع غزة وانقاذهم من المقتلة بالتجويع والحرب، لا يتوقف عند هذا المطلب بل يتجه نحو السعي الى حل قضية فلسطين.