ما وراء التصريحات…! محاولة قراءة ما يجري خلف كواليس الحرب على غزة


  • الأحد 12 نوفمبر ,2023
ما وراء التصريحات…! محاولة قراءة ما يجري خلف كواليس الحرب على غزة
غزة

ليس كل ما يُعرض على الشاشات يَعرض كل الحقيقة. في الإعلام- في الأوضاع العادية- يختار مَن يقفون وراء الأخبار عرض ما يعتقدون أنه يخدم أجندتهم، فيجتزئون المعلومات، ويُخرجون الكلام عن سياقه، ويقدّمون جزءا من الصورة الكاملة. فكيف هو الوضع عندما يحدث ذلك أثناء الحروب أو الأزمات؟

عندما تقارن بين ما يُعرض في وسائل الإعلام؛ ترافقه أكثرُ التصريحات شدّة وحِدّة، وهي عادة تصريحات ذات اتجاه واحد ومضمون واحد، مثل: سننتصر، سنُنهي المهمّة، سنحطّم، سنكسّر، سنحقق الأهداف المعلنة؛ عندما تقارنها مع تصريحات قادمة من اتجاهات عديدة ومن جهات دولية كثيرة، ستجد تناقضا واضحا، وستقرأ صفحة أخرى في كتاب “إدارة الأزمات في كواليس السياسة أثناء الحرب”.

تعيش المؤسسة الإسرائيلية هذه الحالة بأجلى صورها، وهي تحاول أن تقدم لجمهورها المصدوم مما حدث يوم السابع من تشرين الأول الماضي، وجبات من التفاؤل بأن الأهداف المعلنة سوف تتحقق لا محالة.

لقد رأينا مثل هذا المشهد وسمعنا كلاما يشبه ما نسمعه الآن إلى حد كبير، في العدوان السابق على غزة عام 2014، والعدوان عام 2012 وما سبقه كذلك من حروب شنها الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة. لكن النتائج جاءت مختلفة عن التصريحات وعن الأهداف المعلنة. وهذا قاله ويقوله محللون إسرائيليون، ورجال سياسة إسرائيليون أمثال إيهود براك، الذي شارك كوزير للأمن في حكومة نتنياهو السابقة في حرب 2012، وإيهود أولمرط الذي شنّ أول حرب على غزة عام 2008/2009. فما الذي يجعل أحدًا يعتقد أن النتائج هذه المرة ستكون شيئا آخر؟! ليس هناك من يمكنه ضمان ذلك، وليس هناك من يجرؤ أن يوقّع على بياض.

في الحروب تسمع كلاما كثيرا، وتصريحات ذات سقف عال، لها ضجيج يتوخى مطلقوه إثارة الرعب لدى الطرف الآخر، ويسعون في ذات الوقت إلى إقناع الجبهة الداخلية والجمهور العريض بأن الأمور ستجري تماما كما هي التفاصيل التي تقال في التصريحات. لكن الأمور على أرض الواقع تخبرك بأمور مختلفة… وأحيانا معاكسة.

الآن حاوِلْ أن تستحضر الحرب الروسية على أوكرانيا وكيف بدأت، وماذا قال بوتين يومها، وكيف أوهمت موسكو الرأي العام أن المسألة لن تستغرق شهرا واحدا على الأكثر. وها هي الحرب قد امتدت وما تزال جارية إلى هذه اللحظة دون تحقيق الأهداف الكبرى التي أعلنت عنها موسكو عشية الحرب وفي أيامها الأولى.

في مراجعة للتصريحات الإسرائيلية، سواء على لسان نتنياهو ووزير الأمن جلانت والوزير جانتس وغيرهم في بداية الحرب الجارية الآن، والتي بدأت بأعلى سقف؛ وهو إبادة حركة حماس وإنهاء وجودها، ثم التصريحات المتتابعة مع مرور الوقت وما يجري على الأرض وما يجري خلف الكواليس، وأمام المشاهد الكارثية القادمة من غزة والتي يشاهدها العالم كله، وتأثيرها ليس فقط على الرأي العام (الغربي بشكل خاص)، وإنما أيضا على الساسة الغربيين في مقدمتهم أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا؛ تلك الدول التي أعلنت منذ البداية دعمها غير المحدود وغير المشروط لتل أبيب، ستكتشف تراجعا وأحيانا تضاربا في تلك التصريحات عن الأهداف الكبرى التي أعلنوها في بداية الحرب، حتى أصبح ملف الأسرى والرهائن في غزة هو الذي يتصدّر المشهد.

اقرأ معي التصريح الأخير لنتنياهو يوم الثلاثاء: “لن يتوقف إطلاق النار في غزة حتى نستعيد المخطوفين”. ثم قارن هذا التصريح مع تصريح سابق يقول فيه نتنياهو: “لن نتوقف حتى نقضي على حركة حماس”. شتان بين التصريحين! والسبب؟

من الطبيعي وأنت تقرأ هذه التصريحات أن تسأل: إذا كان نتنياهو يتحدث الآن عن استعادة المخطوفين كهدف أول، فمع من ستفاوض، إذا كان هدفه السابق يتحدث فيه عن إبادة الطرف الذي يحتفظ بالمخطوفين؟ الحل الوحيد لهذا اللغز هو تحرير الأسرى أثناء المعركة. فهل هذا ما يقصده نتنياهو؟ وهل هذا ممكن فعلا؟؟

ما يجري خلف الكواليس مما لا نعلم تفاصيله الدقيقة، ولكن نستطيع أن نستنبطه من المواقف على مستوى العالم، خاصة الأطراف ذات العلاقة، يدفع القيادات الإسرائيلية دفعا إلى التخفيف من التصريحات وخفض سقف التوقعات وتغيير اتجاهاتها، إضافة إلى أن ميدان المعركة فيه طرفان، ولكل طرف روايته وتفاصيله التي يقدمها لجمهوره، وهي تفاصيل ستنجلي حقيقتها عندما ينجلي غبار المعارك. ولا بد من التذكير هنا مرة أخرى أنه باستخدام الحل العسكري وحده لا يمكن تحقيق النتائج، ففي العلوم العسكرية فإن استخدام القوة العسكرية وخوض الحروب والمعارك يعتبر وسيلة وليس هدفا، وهي وسيلة من جملة وسائل تتضمن السياسة والاقتصاد والمصالح بعيدة المدى، ليس فقط لطرفي النزاع وإنما لأطراف أخرى.

ثم لاحظ معي أن ما أطلقوا عليه في تل أبيب “مجلس الحرب المصغر”، ورغم كل المحاولات اليائسة لإظهاره كوحدة متماسكة ترمي عن قوس واحدة، إلا أن الخلافات بين أعضاء المجلس تبدو بوضوح في كل إطلالة أمام الشاشات. ولعل ظهور الثلاثي: نتنياهو وجلانت وجانتس مساء الثلاثاء في ثلاثة تصريحات منفصلة، تجد بينها تباينا في أمور كثيرة، يعكس عدم وحدة المواقف وعدم التوافق على كل شيء معلن، ناهيك عن التصادم بين المستويين السياسي والعسكري، رغم المحاولات المستميتة لإظهار عكس ذلك، من خلال إخراس الأصوات التي تحاول بين الحين والآخر مواجهة الواقع على الملأ. والسؤال: كيف يقرأ المراقب “مجلسا عسكريا موحّدا” خروج أعضائه في ثلاثة مؤتمرات صحافية منفصلة؟ إن هذا يحمل في طياته أمورا كثيرة تجري خلف الكواليس، ربما من بينها اتهام نتنياهو بالهروب من المسؤولية، وربما رفع سقف الأهداف بما لا يتناسب مع الواقع… وإن ما برره رجال نتنياهو من أنه فضّل خروجا للإعلام دون توجيه أسئلة يعكس شيئا ذا وزن كبير يلقي بثقله على المستوى السياسي الإسرائيلي الذي يدير المعركة… وهذا من شأنه أن تكون له تأثيرات كبيرة على سير المعارك في الميدان، كما يرى كثيرون من المحللين الإسرائيليين.

ومن الأمور التي لا بد من ملاحظتها أن شريك غانتس في حزبه وفي “المجلس العسكري المصغر” الجنرال غادي آيزنكوت، لم يصدر عنه حتى الآن، ومنذ بداية الحرب تصريح واحد، رغم كونه ذا مكانة عسكرية رفيعة، بصفته رئيس أركان سابق. فلماذا جرى تحييد آيزنكوت؟

إن لهذا الجنرال نظرية عسكرية مغايرة لما أعلنه نتنياهو وجلانت، خاصة الحديث عن أن هذه الحرب لن تنتهي قريبا وقد تمتد لأشهر طويلة وربما لسنة، كما ورد على لسان جلانت في أحد إطلالاته الإعلامية قبل أيام. فآيزنكوت يعتقد أنه يجب أن تنتهي المواجهة العسكرية في أقصر وقت ممكن، تتبعها فترة مهادنة طويلة، إضافة إلى تقليص المس بالمدنيين إلى الحد الأدنى، وذلك بهدف تخفيف الضغوط الدولية. فهل لهذا السبب جرى تحييد عسكري كان يحمل أعلى رتبة عسكرية ويعرف غزة جيدا؟ ربما.
هذا شيء مما يجري- ربما- خلف كواليس المشهد الإسرائيلي الداخلي. لكن هذا المشهد ليس معزولا عن الساحة الدولية وكواليس السياسة فيها.

بناء على ما نستطيع قراءته من التصريحات القادمة من واشنطن في الأيام الأخيرة، وكذلك من بعض الدول الأوربية الداعمة لتل أبيب، والتي تتحدث تارة عن هُدن إنسانية مؤقتة وأحيانا عن وقف مؤقت لإطلاق الناس يمتد لعدة أيام وأحيانا أخرى عن ضرورة وقف إطلاق النار المشروط، فإن تل أبيب تقف أمام مسألتين:

الأولى: إنها مرهونة تماما بالموقف الأمريكي. فإذا تغير الموقف الأمريكي أو أصبح أكثر ليونة، فإن هذا ينعكس بالضرورة وتلقائيا على موقف تل أبيب. فدون الدعم الأمريكي لا يمكن لهذه الحرب المجنونة أن تستمر. وإنّ أكثر ما تخشاه تل أبيب أن تُفاجأ ذات صباح أمريكي بمطالبة واشنطن بوقف تام لإطلاق النار، لأن استمراره يضر بمصالحها، خاصة وأن الأجواء السائدة في منطقتنا مشحونة بشكل غير مسبوق وتهدد بانفجار ضخم سيؤدي بالضرورة إلى توسيع رقعة الحرب من خلال فتح جبهات أخرى لها بوادر الآن يلاحظها الجميع، وجبهات قد لا نلاحظها الآن وربما تشكل مفاجأة للجميع. وهذا آخر ما تريده واشنطن، التي تستعد لانتخابات الرئاسة. ناهيك عن مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة. أضف إلى ذلك أن من بين الرهائن أمريكيون تسعى واشنطن إلى تحريرهم من خلال وساطات قَطَرية ومصرية وربما تركية أيضا. ومن مصلحة واشنطن بذل كل وسيلة لتحريرهم حتى بثمن وقف إطلاق النار، سواء بشكل مؤقت أو نهائيا. كذلك فإن موقف واشنطن مرهون بمسألة أخرى لا تقل أهمية، بل قد تكون حاسمة، وهي ما يجري في ساحة المعركة. فإذا حققت تل أبيب في الميدان ما تصرّح به أمام الإعلام من تقدم واقتراب من تحقيق الهدف أو بعضه، فإن سقف التصريحات الأمريكية ومواقفها ستعلو طبقا لذلك، وإذا تبين لواشنطن، التي لها تقاريرها الخاصة من الميدان بعيدا عن التقارير الإسرائيلية، أن المسألة تختلف فإن موقفها سيكون منسجما مع نتائج الميدان.

الثانية: قالها محللون إسرائيليون- ربما حتى هذه اللحظة من الحرب تتحمل الجبهة الداخلية الثمن بالقتلى من الجنود في غزة، ولكن عندما تمر الأيام ويزداد عدد القتلى بحجم كبير دون أن ترى الجبهة الداخلية شيئا من تحقيق الأهداف المعلنة، فإنها ستبدأ تضغط لوقف الحرب والدخول في مفاوضات هدنة طويلة والعمل على تحرير الأسرى والرهائن من خلال هذه المفاوضات مقابل الثمن الذي يطلبه الطرف الآخر، وهو تبييض السجون الإسرائيلية حتى آخر أسير فلسطيني. وهو ما لم يكن أحدٌ من قبلُ يجرؤ حتّى على مجرد طرحه على سبيل المزاح!
لقد اعتادت المؤسسة الإسرائيلية على خوض حروب خاطفة قصيرة لأن جبهتها الداخلية لا تتحمل الكثير من الخسائر بأرواح الجنود والبقاء تحت ضغط الحرب والمكوث في الملاجئ فترات طويلة. ولذلك فإن الجبهة الداخلية الإسرائيلية قد بدأ جمهورها (وفي مقدمته ذوو الأسرى والرهائن) يتململ ويخرج في مظاهرات في الشوارع للمطالبة بحل حقيقي. وهذا من شأنه أن يشكل ضغطا كبيرا على متخذي القرار. كان لهذا نماذج في السابق، وليس هناك ما يمنع أن يتكرر الآن، رغم قول قائلهم: إن ما حدث يوم السابع من تشرين الأول الماضي غير مسبوق، وفي التالي فإن التعامل معه يجب أن يكون غير مسبوق أيضا.

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر