منعونا من الكلام فتحدّثت العيون

الناصرة


  • الأربعاء 11 يناير ,2023
منعونا من الكلام فتحدّثت العيون
أسرى نفق الحرية

فجأة سمعتهم ينادونني باسمي فتحاشرت الأعين والأذان في الإحاطة بكل المشهد حيث سمحَت المحكمة للإعلام والصحافة بالتقاط الصور لمدة دقيقة واحدة تبدأ في الثانية عشرة وخمس دقائق وتنتهي بعد ستين ثانية، وكل من يخالف يتم إخراجه بالقوة من القاعة. ويبدو أن عقارب ساعة أمن المحاكم والسجان المضطرب تسير أسرع من ساعاتنا التي تريد أن تبقي اللحظة زمنا لا ينتهي. كان الصخب خير مساحة للتواصل مع أسرى النفق محمود وأيهم ويعقوب وزكريا ومحمد ومناضل وزملائهم المتهمين بمساعدتهم في نفق الحرية. كانت رسالتهم الاولى ايصال التعازي  إلى عائلة أبو حميد وإلى أم الأسير ناصر أبو حميد.

كانوا عشرة أسرى محاطين بعدد يصل إلى اكثر من ضعف عددهم من السجانين ليضاف إليهم حرس المحكمة، كانوا محاصرين جدًا وكانوا أحرار جدًا. احتجوا على ضيق المكان المخصص لهم وقد احتلّه الحراس لدرجة لم يتسع المكان إلى اثنين منهم بقيا خارج بوابة الأمن، فانصاع الحرس بعد أن طلبت المحكمة ذلك، ثم طلب زكريا من القاضية أن تخفف من الازدحام في مقصورة الاسرى، إذ لا يرى الأسرى محاميهم ولا القاضيات الثلاث. لم يتحسن الوضع، لكن رئيسة الجلسة أصغت لهم، ثم بدأت بإجراء التأكد من الحضور وطلبت من كل اسير أن يرفع يده لانها لا ترى الوجوه بسبب الحراسة، فاعترض أسير بعد الأخر بترديد "يداي ورجلاي مقيدة بالسلاسل وسلسلة اخرى تربط اليدين بالرجلين ولا أستطيع أن أرفع يدي". كان الترداد رسالة فردية وجماعية بأن الأسرى هم أسياد أنفسهم وأنهم أسرى حرية يرفضون القيد.

ترافع المحامون عن الاسرى كما يليق بالحدث ودعوا إلى تخفيف الحكم وإلغاء العقوبات المالية، فلم يكن لدى الأسرى من هدف سوى نسمة حرية وتقبيل الوالدة أن كانت على قيد الحياة وزيارة قبرها في حال أنها متوفّاة وهل هناك ما هو غير شرعي في ذلك، تساءلوا. أشاروا إلى أن الأسرى الستة قد تعرضوا للعقاب الإداري من مصلحة السجون بما في ذلك العزل المتواصل وسحب مخصصات الكانتينا وعليه لا يجوز محاكمتهم أمام أكثر من جهة حول نفس القضية، ثم أن الأسرى المحكومين بالسجن مدى الحياة ليس لديهم من مصدر لدفع الغرامات ولا معنى لها سوى سلب حقوقهم الاساسية في الحصول على الملبس والمأكل من كانتينا السجن. ثم أن الغرامات تصل خمسة الاف شيكل ثلاثة أضعاف معدل المعاش الشهري في الضفة الغربية. كما دافعوا عن النية بالهروب بكونه المجال الوحيد الممكن كي يتنفسوا الحرية ولو لبضع ساعات ولم تكن أية نوايا أخرى لديهم، ثم أن السجون حسب القانون الدولي ينبغي أن تكون في المناطق الواقعة تحت الاحتلال وليس في دولة الاحتلال.

كان لي جانب شخصي جدا ووجداني بذات القدر، فمعظم اسرى النفق هم زملاء الأسر وغالبيتهم زملاء الزنزانة لفترات مختلفة حيث عرفتهم جيدا وتصادقنا وتقاسمنا الضيق وبالذات مع محمود العارضة الذي أمضينا الليالي ننصت الى قصصه وعن محاولة الهروب عام 2014 والتي اخفقت لكنه تعلم منها الكثير، ولذلك حين انتشرت اخبار الهروب عام 2021 في السادس من أيلول سبتمبر وقبل نشر الاسماء، كان محمود أول من فكرت به، وجدت نفسي اليوم ينادونني باسمي واناديهم واحدا واحدا، ثم تحدثنا بلغة الشوق والزمالة الممزوجة بالفرح وبالأسى من جهتي على الاقل، لم انصت جيدا الى المحامين والقاضيات وانما انصبّ اهتمامي على زملائي، ثلاث مرات قطع الحراس حديثنا من بعيد وهددوني بإخراجي من القاعة، لم اكترث في داخلي الا لاستبعاد الحراس وأعينهم المراقبة عن تبادل البسمات، منعونا من الحديث حتى من الحديث الصامت ومن بعيد، وهددونا حين ابتسمنا، منعونا من الكلام فكانت لغة الأعين وقد أوصلت الرسالة، وقالت كلّ شيئ. لقد حضرت كما غيري كي أعزز معنويات أسرى النفق فوجدتني مشحوناً بالطاقات والمعنويات منهم، لأكتشف أن هذا كان شعور جميع الحضور.

كانت طفلتان من اقارب العارضة من الناصرة، ولا أحد يملك الحصانة كما الطفولة، فلم تنصاعا لصراخ الحراس ولتنبيهاتم وإنما اطلقتا صوتيهما وهما تقولان "عمي محمود بنحبك" و "احنا مع الاسرى" فتراجع الحراس أمام صوت الطفولة، وابتسم الأسرى وهم يغادرون قاعة المحكمة غير مكترثين لجدار السجانين المحيط بهم.

كان من المهم التوقيت أيضًا، إذ أننا اليوم عشية حملة تنقيلات في السجون تشمل 2000 أسير فلسطيني، وذلك لتخريب توازنات عيشهم وهدم بُنيتهم، وهناك التصعيد الترهيبي الحكومي والقانوني والإعلامي في أعقاب تحرر الاسير كريم يونس، قبل أسبوع وعشية تحرر الأسير ماهر يونس بعد اسبوع، والدعوات لسحب المواطنة وإعادة اعتقاله والحكم بالاعدام على الاسرى وغيرها من التصعيدات. في مثل هذه الحال من المهم أن يشعر الأسرى بأنهم ليسوا منسيين بل شعبهم من حولهم كما دائما ولن ندع دولة الاحتلال تستفرد بهم من وراء الجدران، بل دورنا هدم الجدران ليصبح نفق الحرية فضاءً لا نهائيًا.

 

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر