77 عامًا من الصمود.. بين التهجير القسري والطوعي


  • الاثنين 28 أبريل ,2025
77 عامًا من الصمود.. بين التهجير القسري والطوعي
النكبة

نعيش هذه الأيام في ظلال الذكرى السابعة والسبعين لنكبة شعبنا الفلسطيني، تلك النكبة التي لم تكن لحظة عابرة في سجل التاريخ، بل لحظة تأسيس لمأساة مستمرة، تتجدد فصولها يومًا بعد يوم في حياة الفلسطينيين في كل مكان.

لم تتلاشَ آثار النكبة، بل تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، خاصة لدى أولئك الذين بقوا في وطنهم، داخل الخط الأخضر، حيث يشكلون أقلية وطنية وقومية في دولة ذات أغلبية يهودية تسعى، بكل أدواتها، إلى طمس هويتهم وقطعهم عن انتمائهم الفلسطيني، والعربي، والإسلامي، وحتى الإنساني.

غالبية هؤلاء الفلسطينيين يقيمون في بلدات وقرى لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن القرى الأصلية التي هجّر منها آباؤهم وأجدادهم عام 1948. هذه القرى وإن مُحيت من الخرائط، إلا أنها لم تُمحَ من الذاكرة الجمعية، ولا تزال حكاياتها تُروى في الجلسات العائلية والاجتماعية، وتُتناقل شفويًا من جيل إلى جيل، شاهدة على جريمة التهجير القسري والتطهير العرقي.

لقد كانت أبرز ملامح النكبة تدميرًا ممنهجًا لكل ما هو عربي وفلسطيني، من بشر وحجر، على يد المشروع الصهيوني، الذي قام على استئصال الفلسطينيين تمهيدًا لإحلال المستوطنين مكانهم. هذا المشروع تبنّى أيديولوجيا قائمة على الإبادة المادية والثقافية والحضارية، وعلى محو المعالم والوجود الفلسطيني، وتكريس واقع استيطاني جديد بالقوة.

وما نشهده اليوم من حرب إبادة ممنهجة في قطاع غزة، والانتهاكات المتواصلة في الضفة الغربية، ليس سوى امتداد لهذا النهج ذاته. أما في الداخل الفلسطيني، أي أراضي الـ48، فقد اتخذت السياسات الاستعمارية طابعًا أكثر تعقيدًا وهدوءًا، مع بروز ما يُعرف بـ”التهجير الطوعي” منذ مطلع الألفية الثالثة. هذا التهجير لا يعتمد على الطرد المباشر (التهجير القسري)، بل يرتكز إلى تآكل البنية الداخلية للمجتمع الفلسطيني من خلال سياسات خنق ناعمة ومركبة.

هذا التهجير الناعم يقوم على خلق بيئة طاردة، من خلال تفشي الجريمة المنظمة، وفوضى السلاح، وانعدام الأمان الشخصي.

وقد تحوّل غياب الأمن إلى أداة بيد الدولة لبثّ الرعب وتقويض النسيج المجتمعي، حتى غدا التهديد الوجودي الأخطر منذ نكبة عام 1948.

ومن المهم الإشارة إلى أن الرؤية الصهيونية الاستيطانية، في جوهرها، تقوم على ثلاث ركائز مترابطة: تحطيم البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للسكان الأصليين، واستجلاب المستوطنين عبر الهجرة، والاستيلاء على الأرض بالقوة وطرد السكان المحليين منها. ولا تزال هذه الركائز فاعلة حتى يومنا هذا، وإن باتت تُمارَس بأدوات أكثر نُعومة وتحت غطاء قانوني مموّه.

وحتى نركّز على ما يجري في الوقت الحالي، فمنذ هبّة القدس والأقصى عام 2000، أعادت المؤسسة الإسرائيلية تفعيل “مشروع بن غوريون المؤجّل” – التهجير الذي لم يكتمل. وقد تصاعدت السياسات الإسرائيلية العليا بحق فلسطينيي الداخل، باعتبارهم “قنبلة ديموغرافية موقوتة” ينبغي تحييدها بأي وسيلة.

وتجلى ذلك في سلسلة من السياسات والخطابات، بدءًا بتقليص الميزانيات التنموية للبلدات العربية، مرورًا بتشريع “قانون القومية” الذي يكرس دونية المواطنين الفلسطينيين، وليس انتهاءً بتقاعس الشرطة المتعمّد في مواجهة الجريمة المنظمة.

ففي السنوات الأخيرة، ارتفعت نسبة جرائم القتل في المجتمع العربي لتتجاوز 70% من مجمل جرائم القتل في الدولة، رغم أن الفلسطينيين يشكلون نحو 20% فقط من السكان، ما يشير بوضوح إلى سياسة غض الطرف، إن لم نقل التواطؤ، مع تفشي الفوضى الأمنية بهدف إضعاف الحصانة المجتمعية، ودفع الشباب نحو اليأس والهجرة.

وفي هذا السياق، تكشفت مؤخرًا مشاهد صادمة، أبرزها حادثة مدينة الناصرة، حين أُلقيت قنبلة يدوية على منزل، وتبين لاحقًا أن منفذي الهجوم هم عناصر في الشرطة الإسرائيلية. حادثة نادرة، لكنها كاشفة، هزت الثقة المتآكلة أصلًا بالمؤسسة الأمنية، وطرحت تساؤلات جوهرية: هل تحارب الشرطة الجريمة فعلًا؟ أم تُديرها وتُغذيها؟ ولمن تعمل؟

بالتوازي، بدأت الأصوات تتعالى داعية إلى هجرة الشباب الفلسطيني، ولا سيّما المتعلمين وذوي الكفاءات من أبناء الطبقة الوسطى، بحثًا عن الأمان والاستقرار. فعلى مجموعات فيسبوك التي تُعنى بما يُعرف بـ”الري-لوكيشن”- أي الانتقال والهجرة إلى دول أخرى- تتكرر يوميًا مئات الرسائل التي تعكس حجم الضيق والخوف من المستقبل، وتكشف عن نزيف مستمر في صفوف الشباب الفلسطيني، الذين يسعون إلى مغادرة البلاد، مستفسرين عن التأشيرات وفرص العمل والدراسة وظروف الحياة في الخارج.

وإن كنت، على الصعيد الشخصي، لا أحب التطرق إلى هذا الموضوع، إلا أنه واقع لا يمكن تجاهله أو التعامي عنه. فهذه الظاهرة ليست مجرد رد فعل فردي، بل يمكن القول إنها انعكاس مباشر لسياسة منهجية تهدف إلى إفراغ الداخل الفلسطيني من طاقاته الحية وموارده البشرية.

في النهاية، لا يمكن فهم ما يجري على أنه فوضى مجتمعية أو نتائج عفوية، بل هو جزء من سياسة عليا تتبناها الدولة، تهدف إلى إعادة تشكيل الحيز الفلسطيني داخل الخط الأخضر بما يتماشى مع تصورات الدولة اليهودية.

يتم ذلك عبر تفكيك النسيج الاجتماعي، واستنزاف الطاقات البشرية، ودفع الناس، خاصة الشباب، نحو الهجرة والانكفاء، ثم تقديم هذه الظاهرة وكأنها “خيار فردي” نابع من الإرادة الذاتية، في حين أن الواقع يُظهر بوضوح أن هذا التوجه نتيجة لضغوط مركبة تُمارس بشكل ممنهج ومدروس.

لقد بات كل فلسطيني في الداخل يشعر بأنه مهدد، ليس فقط بانعدام الأمان، بل أيضًا بتضييق المساحات السياسية، وملاحقة القوى الفاعلة، واستغلال الميزانيات لتكريس القمع.

لكن الفلسطينيين، بتجربتهم المتراكمة، تعلموا كيف يحبطون مشاريع الأسرلة والذوبان. فعلى مدى 77 عامًا من النكبة، أثبتوا قدرتهم على الصمود، وتحصين هويتهم، وبناء جبهاتهم الاجتماعية والسياسية في وجه كل محاولات الاقتلاع. وهم يدركون اليوم، رغم قتامة المشهد وتصاعد مشاعر الإحباط، أن ما تبقى من الطريق أقصر مما مضى، وأن “التهجير الطوعي” الذي تسعى إليه الدولة لن يتحقق بسهولة، طالما بقي هذا الشعب متمسكًا بجذوره، ومؤمنًا بحقه، ومتيقظًا لكل محاولات تشتيته.

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر