اســــماعيل أذ يحاصر أســـرائيل..
مقالات

احتفت إسرائيل بقتلها رجلين من رجالات المقاومة من تعتبرهم مفاتيح في المقاومة ، رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية ومن يطلقون عليه القائد العام لقوات حماس المشابه لقائد هيئة الأركان عندهم محمد الضيف .ففي حين تذهب إفادات إسرائيلية الا ان اغتيال هنية خطوة نحو دفع المقاومة للموافقات على الطلبات الإسرائيلية في وقف الحرب فأن أعلانها اغتيال الضيف من باب رفع المعنويات وتأكيد اليد العليا للأجهزة الأمنية والأسرائيلية .
منذ السابع من أكتوبر العام الماضي والى هذه اللحظات تشن إسرائيل حربًا لا هوادة فيها على اهل غزة مترجمة لتصريحات قادتها وفي مقدمتها رئسها هرتصوغ ان كل ما في غزة حلال قتله وتدميره لا فرق بين مدني وعسكري وبين طفل وشسخ وامرأة وبرر القوم القتل الممنهج بانهم يقتلون " حيوانات بشرية" وتوافق العالم عرربًا وعجمًا على هذه الحرب الا فريق من القادة وبعض من قطاعات من شعوب العالم الغربي فيما فرض القادة العرب والمسلمين حصارًا غير مسبوق على انفاس الخلق في التعبير ولو عن بعض غضبها اللهم الاقليل.
ثمة ثلاثة حقائق افرزتها الى هذه اللحظة هذه الحرب المنظمة المسعورة التي ارتقت الى جرائم حرب كما بينتها محكمتي العدل والجنائية الدوليتين .
الحقيقة الأولى أنَّ إسرائيل اذ تشن حربها على غزة فهي مدعومة دوليًا وعربيًا من بعض أنظمة التطبيع ، وهذا الدعم يحمل مستويين اثنين ، دعم مادي لا حدود له يُبقي إسرائيل واقفة على قدميها في هذه الحرب غير المتكافئة لتحقيق نصرها " الموعود" ويغري بتحقيق نصر على المقاومة ، ودعم أخلاقي-اعلامي يفلسف القتل والابادة ويحيل الضحية الى جلاد والعكس صحيح ، ومن تتبع تصريحات الزعماء العرب وأبنائهم والاعلام العربي الدائر في فلك التطبيع والعداء المُباشر للمشروعين الإسلامي والمقاوم يجد ضالته هناك ، اما الاعلام الغربي فحدث عنه في هذا السياق ولا حرج.
تبقى الرؤية التي يطرحها نتنياهو في فلسفته لهذه الحرب قائمة على بعد أيديولوجي- حضاري هو الحاضر الغائب وهو السبب المباشر في الدعم غير المتوقف لجيشه وعصابته الحاكمة ، فهو يعبر عن ان دولته تمثل جبهة النور\الانوار\ الحرية والديموقراطية فيما تمثل غزة الظلام\الارهاب\ الظلامية الإسلامية وخلف الأولى تقف أمريكا والعالم الغربي الليبرالي ومن يدور في فلكه وهو ودولته راس الحرب المنافح والمجالد عنهم ، ويتفق معه معظم الدول العربية في ما ذكرته آنفًا .ولذلك تحدث في خطابه الأخير في الكونغرس عن أصدقائه العرب؟.
الحقيقة الثانية أن هذه الحرب طال أمدها وأبدى اهل غزة صبرًا غير مسبوق في حرب مثل هذه على شعب اعزل لا يملك من قطمير واقع تحت الحصار سنين ويحاصر برًا وبحرًا وجوًا ووجد من الأقارب واولي الارحام فظاظة وقسوة وجفاء ونكاية لا وصف لها وهذا الصبر بحد ذاته اضحى نكاية تغيظ إسرائيل ومن يقف خلفها زدات غزة ضغثًا على أبالة ، والحقيقة الثالثة ان المقاومة فاجأت العالم اجمع وبينت معادلات الحرب الى هذه اللحظات في منظور استراتيجي انها لصالح المقاومة ، هذا مع كل الدعم الحاصل لإسرائيل , ومن نافلة القول الإشارة الى ان الشقاقات الداخلية الإسرائيلية ، وتنامي الشعبوية القومية الدينية ، والسعي المحموم للسيطرة على مفاصل الحياة الإسرائيلية واحالتها من علمانية-تقليدية الى قومية -دينية والأوضاع الاجتماعية والمجتمعية وتآكل سمعة الجيش وما تم من هجوم على قاعدتين عسكريتين وسن عشرات القوانين بصورة خاطفة في الكنيست لصالح التمكين القومي-الديني اليهودي الى جانب المناكفاة الداخلية حول نتائج هذه الحرب وراهنيتها وما جلبته من تفكك للاقتصاد لا يزال محميًا الى اللحظة بمال عربي وامريكي وهجرة مئات الالاف من أبناء الطبقة الوسطى فضلًا عن هجرة شركات عملاقة وتراجع سمعتها العسكرية والتكنولوجيا الدقيقة ، كلها من بيانات هذا البُعد الاستراتيجي .فالمقاومة في معادلات الصراع ببعده الزماني تتقدم بخطى ثابتة نحو نصرٍ سيفاجيء العالم أجمع رغم فداحة التضحيات وسيؤسس لواقع إقليمي ودولي جديدين؟.
في هذا الخضم..
في كل التفاصيل التي ذكرت شخصيتان حاضرتان وبقوة . إسماعيل هنية الذي رافق المقاومة منذ نشاتها الأولى والى لحظة استشهاده وارتقى في مستوياتها المختلفة ليكون مسؤول مكتبها السياسي الثالث بعد مرزوق ومشعل آخذًا من انفاس وروح المؤسس الشخ الياسين ووريثه الرنتيسي , وفي عهده تطورت المقاومة فعلًا وقُدرات لتصل الى هذه اللحظة : لحظة المواجهة ليس مع إسرائيل بل مع ما تمثله من بعد حضاري كوني وجيو-سياسي ملحق بها , وهو في هذا السياق ممثل لمنظومة حضارية اسلامية رسالية تحررية تروم الحق والعدل والكرامة تجلت في ارقى معانيها في الملايين الذي شاركوا في صلاة الغائب عليه ومواقف المسلمين الموحدة سنة وشيعة واباظية في تعاضد عز نظيره في تاريخ الإسلام المُعاصر متجاوزًا المذهبية والطائفية ونزاعتها وواضعًا امام وريثه ملحظًا يجب التنبه له بما فيه من خزان استراتيجي إسلامي كوني .... فهو اذن يمثل بشخصه ومكانته ودوره هذا البعد الحضاري الثاوي في المقاومة وما يتناسل عنها سياسة وديانًة .في المقابل نتنياهو الذي ظهر على الحلبة السياسية في أوائل تسعينات القرن الماضي مع اتفاقية مدريد وقرّبه ودفع به الى فضاء السياسة الاسرائيلى كلٌ من شامير وآرنس وترقى في مسيرته السياسية والحزبية ليكون رئيس وزراء إسرائيل متسنمًا قيادة الليكود منذ عام 2009 والى هذه اللحظات .
فيما كان نتنياهو يعمل على تعزيز مكانة إسرائيل واختراقها للعالمين العربي والغربي وطمس القضية الفلسطينية وللأبد عبر أدوات دولية وعربية تفضي الى إبقاء الأوضاع على ما هي عليه ، فرضَ حصارًا مستمرًا على غزة برًا وبحرًا وجوًا حرص خلاله على أدخال النزر اليسير من المساعدات الإنسانية ورافق هذه السياسة تعزيز مستمر لأطراف فلسطينية غزية في السياق الاجتماعي-المجتمعي وإبقاء سلطة رام الله تحت سقف التعاون الأمني والقيام بدورها الدايتوني الذي من اجله جيء بعباس ، في هذا الوقت كان هنية يؤسس للحظة الخلاص من الاستعمار الإسرائيلي .... وهاتان الشخصيتان سيكونان لاحقًا بعد أن تضع الحرب اوزارها محل أبحاث رصينة لشخصيتين رسمتا وبحق راهن ومستقبل هذه المنطقة مع الفارق الكبير والهائل في الإمكانيات والقدرات . ففي حين نحت هنية الصخر ووصل بحركته الى ما وصل اليه انهالت على نتنياهو كل أنواع المساعدات لكنَّ المهم في كل ذلك أن السحر انقلب على الساحر فبدلًا من محاصرة الشعب الفلسطيني وطمس قضيته والانتهاء من ملفاتها أذ بطوفان الأقصى يحاصر أسرائيل في عقر دراها وفي عواصم العالم الغربي وأذ بهنية السياسي يُحاصر نتنياهو السياسي وأذ بهنية الايدولوجي يحاصر نتنياهو الأيديولوجي ... وهكذا حاصر إسماعيل إسرائيل.
مقتل أسماعيل ومقتل نتنياهو؟.
لسنا بصدد الحديث عن مقتل إسماعيل هنية وكيف تم قتله ومن يقف وراء القتل فالقضية اكبر من إسرائيل بكثير وسؤال مقتله عارٌ سيجلل أيران أن لم تُقدِم الإجابات الشافية ليس للفلسطينيين بل للشعب الإيراني نفسه وللنظام الذي استحال في العشرية الأخيرة وكأنه حديقة خلفية لمخابرات دولية ومنها إسرائيل تقتل من تشاء من علمائها وسياسيها ونخبها.
قتلت إسرائيل وان لم تعترف بذلك رجلٌ سياسي بامتياز معروفة تحركاته ونشاطاته وفي عالم العمل الدبلوماسي والعلاقات بين الأعداء أي كانت نوعية هذا العداء خاصة بين حركات التحرر والاستعمار ثمة قاعدتين تعبران عن حساسية العداء ، عدم مس القادة السياسيين باعتبارهم ورقة التفاوض بينهما واحترام أراضي الدولة التي يسكنها المقاوم السياسي والدول التي تجري على أراضيه تلكم المفاوضات . والحديث عن هذه الجزئية يطول لما فيه من استثناءات خاصة في التعاطي مع الحركات التحررية ذات المنبت الإسلامي.
قتل هنية لا يعني ان إسرائيل حققت انجازًا بقدر ما هي نشوة مراهق سرعان ما ستتلاشى ، والقيادة في إسرائيل بشقيها الأمني-العسكري والسياسي يدركان هذه الحقيقة ، انما هي دغدغة عواطف شعبوية تحمل بعضًا من معاني اعتبارات الذات عند نتنياهو شخصيًا وسياسيًا يقاتل في جبهته الداخلية للحفاظ على وجوده السياسي بعد ان كشفت استطلاعات الراي ان من سيرثه في قيادة اليمين الشعبوي ليس الا بن غفير الذي بات يشكل خطرًا على إسرائيل نفسها.
حاصر هنية إسرائيل وكشف عوراتها وهزمها ثلاث مرات ، في تآكل الردع العسكري ، وتآكل المعنويات الداخلية وتآكل قيمتها ومقامها السياسي العالمي وباتت دولة مارقة دوليًا وقانونيًا وصارت تخضع بالمطلق للإدارة الامريكية التي تهاوت سمعتها وافتضح امرها كذلك . لكنَّ الأهم من كل ذلك ان إسماعيل الشخص حاصر إسرائيل الدولة بما فيها من المؤسسة العسكرية والأمنية والسياسية على سواء حتى بتنا نسمع من محللين كُثر عن عبقرية المفاوض المقاوم وعن ذكاء ودهاء المفاوض المُقاوم وعن صبر واصطبار المفاوض المُقاوم الذي يراهن على صبر وثبات غزة مقاومة وشعبًا. فيما نتنياهو غارق في مشاكله الشخصية وتعقيدات المشهد السياسي الداخلي سواء داخل حزبه او كتلته وصار أمره بين سموطريتش وبن غفير من جهة والمراهقين الشعبويين السياسيين داخل ليكوده والشارع الذي توقع منه انهاء الحرب منذ شهور خلت وإعادة الاسرى والمعتقلين ممن هم في ايدي المقاومة من جهة أخرى.
اذا كان الاعلام الإسرائيلي قد كشف عن شخصية إسرائيلية هددت نتنياهو بالقتل واذا كانت الأجهزة الأمنية قد رفعت مستوى الحساسية الأمنية لعديد القيادات السياسية والشرطية الى مستويات عالية جدًا بسبب الأوضاع الداخلية والإقليمية ، فنحن امام مشهد سيتدحرج في الأيام القادمة الى تهديد مباشر خارجي كما تتوقع مواقع إسرائيلية كثيرة ذات شأن . وهذه الوضعية قد تعزز من الانشقاق الداخلي الذي قد يفضي الى اغتيال سياسي ثاني في إسرائيل.
في الخلاصات ..
تعلم إسرائيل يقينًا من تجربتها مع المقاومة أن قتل القياديين السياسيين والعسكريين لن يؤثر فيها ألا بمقدار الأذى الذي حققته وأن الجيل الوارث أكثر صلابة وتمرسًا وأصرارًا من الشهداء... وهذا هو كوود حركات التحرر التي سعت للتحرر من الاستعمار أي كان .. هكذا يقول تاريخ حركات التحرر بما فيه من مدافعات ومغالبات .