قرار المدعي العام للجنائية الدولية: هل دخلت اسرائيل في مرحلة "أم الورطات"؟

- بعد ردود الفعل الأولى فور صدور قرار المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان ، والحرب الاعلامية والسياسية وحملة التشهير ضده وضد المحكمة مشتعلة، فقد استفاقت اسرائيل على واقع جديد يُجمع عليه اعلامها ومعظم خبراء القانون، وكما يصف المشهد الحقوقي الفلسطيني مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة راجي الصوراني والضالع في حيثيات المحكمة بقوله "إن إسرائيل كانت قبل القرار شيء وبعده شيء آخر، المستجد نوعي ومن الصعب جدا تجاهله او تجاوزه بالذات أوروبياً سيتدحرج ككره ثلج" وهو ما أجمعت عليه ايضا عناوين وسائل الاعلام الاسرائيلية.
- لم تدم حالة التموضع في خندق الإجماع القومي الصهيوني التي ميزت ردود الفعل الاولى التي استمرت ساعات قليلة وعاد خطاب الورطة والتصدّع وتفكك الرواية يحتل مكانها، وهناك إجماع بأن إسرائيل أمام حدث مفصلي عظيم الأثر، وأنها تتعرض الى "تسونامي له ارتدادات" سياسية وقانونية واقتصادية ومعنوية.
- على الرغم من مساعي إسرائيل المتواصلة للتأثير على قرار كريم خان وتجنيد الحلفاء الغربيين بقيادة واشنطن ولندن، الا ان قرار الطاقم الاستشاري الحقوقي رفيع المستوى والمكون من ستة من الخبيرات والخبراء الدوليين المرموقين بمن فيهم سفير اسرائيل سابقا في كندا تيودور ميرون ، والحقوقية المعروفة أمل علم الدين، والذين أجمعوا على أن البينات التي قدمها المدعي العام توفر أساسا وافياً بأن نتنياهو وغالنت قد "ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بالاستخدام المتعمد لتجويع المدنيين كوسيلة من أساليب الحرب وقتل الفلسطينيين واضطهادهم".
- شكل قرار المدعي العام كريم خان انكسارا للاستعلاء والفوقية، فلو كان القرار متمحورا في نتنياهو وغالنت لكان أسهل عليهما من وضعهما، من منظوريهما، في خانة واحدة مع السنوار وضيف وهنية ممن أطلقت عليهم المؤسسة الاسرائيلية تسميات مثل "الوحوش البشرية" و "النازيين الدواعش".
- يشكل القرار انهيارا للوضعية الاعتبارية التي تباهت بها المحكمة العليا الاسرائيلية وتباهت بها اسرائيل لدى المحافل الدولية وأمام المجتمع الإسرائيلي نفسه بأنها المحكمة الأكثر نزاهة في العالم وبأن الجيش هو الاكثر اخلاقية في العالم، فلم تعد تشكل "الدرع الحامي" للمنظومة الاسرائيلية وللإجراء الاسرائيلي وفقا لحجّة التكامل بالمفهوم القانوني. بل شكل قرار المدعي العام حجب ثقة عن المحكمة العليا الاسرائيلية التي شكلت تاريخيا غطاء قضائيا مرجعيا لشرعنة الاحتلال والضم والاستيطان وجرائم الحرب ذات الصلة.
- هناك اجماع سياسي واعلامي اسرائيلي بأن القرار لا ينحصر أثره في نتنياهو وغالنت وسيطال مسؤولين آخرين وضباطا في الجيش وقيادته العليا. كما يتوقعون أن يكون للقرار أثر ملموس على قرار محكمة العدل الدولية التي تنظر بدعوى جنوب افريقيا وشركائها ضد دولة اسرائيل بتهمة ارتكاب ابادة جماعية، وحصريا نتيجة تأكيد كريم خان بأن قراره مؤسس على بيّنات بما فيها بصدد جرائم الابادة.
الارتباك الآخر ناتج عن أن إسرائيل الرسمية والاعلامية كانت قد أشادت بالمدعي العام كريم خان وزيارته للبلاد في بداية شهر 12/2023 وزيارته للبلدات في "غلاف غزة"، واعتبروه مقرّبا من الموقف الإسرائيلي ومنددا بحماس، مما ضاعف من حالة الصدمة الحالية. لا تبدو المحاججة الاسرائيلية الدارجة باعتماد استراتيجية التشهير والفضح تجاه الجنائية الدولية او اعتماد خطاب معاداة اليهود واللاسامية، قادرة ان تصمد أمام التداعيات المتسارعة لقرار المدعي العام، والتي بدأت تأخذ منحى التصدّع السياسي وبين المنظومات السياسية والعسكرية والقضائية.
تدرك القيادة الإسرائيلية بأنها لا تستطيع مواصلة اجتياحها الفتاك في رفح وشمال غزة وكأن شيئا لم يكن، وعليه من المحتمل على المدى الفوري العمل على تسريع وتكثيف العمليات في رفح وجباليا وذلك في سباق مع الوقت. كما قد يدفعها الى تكثيف العدوان الاحتلالي على الضفة الغربية ومخيماتها سعيا لتقويض السلطة وسعيا لدفعها لعدم استكمال الاجراء القانوني الدولي.
للخلاصة:
• قرار المدعي العام هو حدث متدحرج وقد باتت اسرائيل متهمة رسميا، وقادتها باتوا ملاحقين جنائيا، ومن شأنه ان يعمق الازمة الداخلية بسبب الاخفاق الاستراتيجي.
• من المتوقع ان يؤثر القرار على قدرة اسرائيل على مواصلة الحرب، لكنه لا يعني انسحابا من القطاع الذي بات تحت الاحتلال المستدام.
• من شأن القرار ان يدفع دولا وحصريا الدول الاوروبية وجهات غير حكومية بما فيها الجامعات والمرافق الاقتصادية الى الاضطرار قانونيا وفقا لقوانين بلادها بالتوقف عن التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية ذات الصلة.
• لا يزال القرار عرضة للضغوطات الامريكية الفائقة سعيا لمنع المحكمة من تبني موقف المدعي العام ولا مكان للتقليل من مخاطر هذا المسعى الأمريكي بعد تصريحات بايدن وبلينكين باعتبار القرار فضيحة مشينة، مما يستدعي موقفا فلسطينيا وعريبا فاعلا.
• من شأن القرار أن يشكل أزمة قانونية في الولايات المتحدة المتورطة في الحرب على غزة وبصدد تصدير الاسلحة الى دولة يخضع قادتها لتهمة جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية، ومن المتوقع ان يقوم الكونغرس بتشريع قوانين التفافية.
• يشكل القرار فرصة فلسطينية وعربية غير مسبوقة، إذا أُحسن استغلالها، سعيا لوقف الحرب على غزة ونحو احقاق حقوق الشعب الفلسطيني.