لهذه الأسباب سيضطر نتنياهو للخروج من رمال غزة المتحركة
مقالات
هناك جملة من الأسباب تدفع الاحتلال الإسرائيلي إلى السعي للخروج من رمال غزة التي بدأت قواته العسكرية تغوص فيها منذ اللحظة الأولى للاجتياح البري، وذلك على الرغم من التصريحات النارية التي يطلقها نتنياهو وأعضاء مجلسه الحربي المصغر، ومِن خلفهم المجلس الوزاري المصغر وجوقة المحللين، الذين اتّخذوا من التضليل والكذب وقلب الحقائق قاعدة ينطلقون منها ويطلقون من منصّاتها كلاما متناثرا لا علاقة له بالواقع.
لقد وجدت المؤسسة الإسرائيلية نفسها أمام انقلاب في موازين المشهد بعدما حدث في السابع من تشرين الأول الماضي، والذي لم تكن تتخيل وقوعه في أسوأ كوابيسها. وجدت نفسها – كما وجدها الآخرون وفي مقدمتهم واشنطن- غير مستعدة لحدث بهذا المستوى والحجم، لذلك جاءت ردة الفعل على الهيئة التي عاينّاها وما نزال؛ ردة فعل انتقامية جنونية، بعيدة كل البعد عن سلوك دولة معافاة تملك زمام أمرها وتتصرف بالضوابط المتعارف عليها، كما هو متوقع من أية دولة تتعرض لمثل ما تعرضت له تل أبيب.
وإننا، بعد دخول الحرب المجنونة، أو بمسماها الحقيقي ، “ماكينة الانتقام” حتى من الحيوانات، نرى أن سقف الأهداف العالي الذي أعلنه نتنياهو لم يعُد هو سيد المشهد الحقيقي، رغم تكراره إعلاميا صباح مساء، بل أصبح مطلب الخروج من ورطة غزة هو المتصدر للسلوك الإسرائيلي، وإنْ أنكروا ذلك ونفوْه على الملأ.
طوال تاريخها القصير، حرص قادة المؤسسة الإسرائيلية، بدءًا من بن غوريون ومرورا بغولدا مئير ورابين وبيبرس وبراك، وصولا إلى نتنياهو، على مسألة في غاية الأهمية: العمل على عدم استعداء كل العالم الإسلامي والسعي إلى تهميش أو إخفاء البُعد الديني للصراع. ومن المهم التذكير هنا بما قاله هنري كيسنجر ذات يوم لغولدا مئير: أنا أسلّمك اليوم أمة إسلامية نائمة. هذه أمة قد تنام وقد تضعف لكنها لا تموت. فاحرصي على إبقائها نائمة. فإنها إن استيقظت هدمت في سنوات قليلة من بنيناه خلال قرون.
وبالتأكيد يدرك نتنياهو والذين حوله معنى هذا الكلام. ولذلك لم تكن موجة التطبيع إلا إحدى خطوات مسيرة الحرص على بقاء الأمة نائمة. وهكذا عمل يستحاق رابين وشمعون بيرس عندما خاطرا بكل شيء واتّخذا خطوة “أوسلو” التي كانت في حقيقتها إحدى وسائل تنويم الشعب الفلسطيني ومِن خلفه الأمة الإسلامية.
لذلك فإن الخشية من حدوث المتوقع، الذي لا تريد تل أبيب ولا دول الغرب ولا حتى الأنظمة العربية المطبِّعة وقوعه، وهو اتساع رقعة هذه الحرب لتشمل المنطقة كلها وتجر خلفها قوى أخرى حرصت حتى الآن على عدم الدخول المباشر، يشكل سببا قويا من أسباب وقف الحرب أو وقف هذه الجولة لبضع سنوات.
إزاء المشهد الدامي في غزة اليوم، والمستمر منذ ما يزيد على أربعة أشهر، يمكن القول إن الهمّ الأكبر للمؤسسة الإسرائيلية الآن هو: كيف السبيل إلى خروج من رمال غزة المتحركة دون إقرار بالهزيمة؟
تتصدّر الخسائر البشرية والمادية على أرض المعركة في غزة قائمة الأسباب التي تشكل دافعا لوقف هذه الحرب. فحتى الأرقام الرسمية المعلن عنها من الطرف الإسرائيلي (وهي ليست كل شيء كما يقول مراقبون ومحللون كثيرون حول العالم)، تشكل صدمة كبرى للشارع الإسرائيلي الذي لم يعتد على هذه الأرقام الكبيرة من القتلى الجنود الذين يشكل الضباط نسبة كبيرة بينهم، إلى جانب الخسائر الكبيرة بالآليات، يرافق هذا غياب الرؤية العسكرية، والفشل الاستخباراتي العسكري الذي فشل حتى الآن في إثبات جدارته في تحقيق شيء على الأرض. يحدث هذا بينما هم يقارنون هذه الخسائر مع ما خسروه في جميع حروبهم السابقة مع الدول العربية، وذلك دون أن يغيب عن أذهانهم أنهم لا يحاربون دولة، بل فصيلا فلسطينيا لا يملك شيئا بالمعايير العسكرية التقليدية.
ثم يأتي السبب الاقتصادي الذي لا يقل أهميّة وخطورة عن غيره من الأسباب. فالمؤسسة الإسرائيلية تعتبر نفسها دولة متطورة ذات اقتصاد قوي، بالمعايير الغربية. ولمّا أن هذه الحرب قد طالت أيامها ولياليها على غير المتوقع، واتضح أنها ليست نزهة، وأنها بشكلها الحالي، تسجل الفشل يتلوه الفشل في تحقيق أقل الأهداف المعلنة، وهو تحرير الرهائن الذين أسرتهم حماس في السابع من تشرين الأول الماضي، فقد بدأت بوادر أزمة اقتصادية- ربما غير مسبوقة- تطل برأسها.
– أولا: تكلفة الحرب، بغض النظر عن المعطيات الأخرى، تشكل عبئا اقتصاديا هائلا، لم يتوقع خبراء الاقتصاد الإسرائيليون وقوعه، لأن الحرب امتدت أكثر من المتخيَّل، وقد تمتد أكثر وأكثر. وهذا يثير قلق خبراء الاقتصاد ولا يبشر بخير.
– ثانيا: يضم الجيش الإسرائيلي، الذي يشارك في الحرب على غزة، نسبة كبيرة من جنود الاحتياط. وهؤلاء يشكلون نسبة لا يستهان بها من الاقتصاد الإسرائيلي. ولعلّنا تابعنا في الإعلام الإسرائيلي(وفي غيره) أصوات التذمر والشكوى التي بدأت تتعالى منذ الشهر الأول لهذه الحرب في أوساط جنود الاحتياط الذين بدأوا يشعرون بثقل العبء الاقتصادي عليهم، وبدأوا يعبّرون عن خشيتهم من خسائر مالية باهظة، علما أنهم يشكلون إحدى الدعائم الاقتصادية في المؤسسة الإسرائيلية، خاصة في مجال الهايتك.
– ثالثا: خسائر فادحة على مستوى السياحة، التي تشكل أحد أهم مصادر الدخل القومي.
– رابعا: غلاء المعيشة الذي بدأ يتصدر المشهد الاقتصادي قبل الحرب، وتفاقم الآن بشكل غير مسبوق، الأمر الذي يشكل أحد الأسباب الرئيسة لتذمر الشارع الذي بدأ يتحول إلى غضب ذي تأثير يجتاح المجتمع الإسرائيلي الذي اعتاد على رفاهية الحياة.
– خسائر فادحة في مجال الزراعة، بعد إخلاء مستوطنات غلاف غزة التي شكلت إلى ما قبل الحرب مُسهما مهمّا في هذا المجال، وإلى جانبها مستوطنات الشمال التي تعتمد الزراعة كأحد المجالات الاقتصادية.
– غياب العمالة الفلسطينية القادمة من الضفة الغربية، والتي كانت تشكل عنصرا رئيسا في أعمال البنى التحتية ومجال البناء وغيرهما بأجور رخيصة جدا، وفشل المؤسسة الإسرائيلية في العثور على بديل حقيقي لها.
– التكلفة الباهظة لرعاية الأُسر الإسرائيلية التي أخرجت من مستوطنات الغلاف ومن عسقلان ومن مستوطنات الشمال القريبة من الحدود اللبنانية. وعبء هذه العائلات مزدوج: عبء اقتصادي وعبء على صورة ضغوط يمارسونها على الحكومة على مدار الساعة لبذل كل شيء من أجل عودتهم إلى أماكنهم التي أخرجوا منها، خاصة وأنهم يسمعون يوميا وعودا رسمية من نتنياهو وغالانت وغيرهما بالعمل على عودتهم قريبا، دون أن يروْا في الأفق حتى غبارا يشير إلى أن المسألة قريبة فعلا. وقد بدأت ترتفع أصوات عالية تتهم الحكومة بالخداع والكذب.
ثم يأتي سبب ثالث يشكل سببا من الأسباب التي تدفع باتجاه وقف الحرب، وهو ضغط الشارع الإسرائيلي الذي تتصدره عائلات الأسرى، التي تطالب طوال الوقت بالعمل على عقد صفقة تبادل لتحريرهم مهما كان الثمن باهظا، بل حتى لو كانت المعادلة، كما تريدها حركة حماس: الكل مقابل الكل.
صحيح أنه حتى الآن لم يرتق التحرك في الشارع الإسرائيلي في هذه المسألة إلى مستوى يشكل ضغطا حقيقا، ولا حتى بمستوى الاحتجاجات ضد قانون التعديلات القضائية التي سبقت الحرب وتوقفت بسببها، لكنها بدأت في الشهر الأخير تأخذ زخما أكبر، دفعت حتى بيني جانتس، وهو العضو في مجلس الحرب، إلى المشاركة في إحدى مظاهراتها. وفي هذه المشاركة رسالة ضمنية لنتنياهو تشكل عليه ضغطا آخر. ويضاف إلى ذلك أن الشهر الأخير، أو تحديدا الأسبوعين الأخيرين يشهدان مظاهرات من نوع آخر. مظاهرات تطالب بإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات جديدة. وهذا مطلب غير مسبوق، لم يحدث أن خرج به الشارع أثناء الحرب قبل ذلك.
وهذا له دلالات تشير إلى عمق الأزمة وخطورة الموقف على كل المستويات. كما يدلل أكثر على فقدان ثقة الشارع بالمستوى السياسي وإلى جانبه المستوى العسكري، الذي كان طول عقود يشكل العمود الفقري لتماسك المجتمع الإسرائيلي، إلى درجة أنه إلى ما قبل هذه الحرب وفضيحة الفشل في السابع من تشرين الأول الماضي، كان يحظى بإجماع إلى درجة القداسة، بينما تسمع اليوم، وفي خضمّ المعركة، أصواتا توجه الانتقاد الصريح للقيادات العسكرية، ولأداء الجيش بشكل عام.
إلى جانب الأسباب أعلاه، يبقى الضغط الدولي الذي بدأ يتصاعد أمام الكارثة الإنسانية التي تسببها الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي في مركزها عشرات آلاف الضحايا من الأطفال والنساء ما بين قتلى وجرحى، إلى جانب حجم الدمار الذي زرعته الطائرات الإسرائيلية في قطاع غزة، وما يرافق ذلك من قطع المياه والكهرباء ومنع وصول المساعدات، وبنية تحتية مدمّرة، يبقى هذا الضغط أحد الأسباب المحتملة المباشرة لوقف هذه الحرب. فما يجري في دهاليز السياسة أكثر بكثير مما هو معلن عنه. وفي التالي فإن الحكومات الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، تضع مصلحتها قبل أية مصلحة أخرى. ونحن اليوم نقف أمام حكومات بدأت تشعر بخطورة الموقف، بينما شوارعها تخرج أسبوعيا منذ بدء هذه الحرب مطالبة بوقفها وداعمة للمطالب الفلسطينية بالتحرر والانعتاق من الاحتلال.
لذلك كله ولغيره من الأسباب، ورغم كل ما سنسمعه من الجانب الإسرائيلي تعليقا على الصفقة الجديدة، فإن نتنياهو سيجد نفسه أمام خيار الموافقة على الصفقة الجديدة، مع الحرص على ألا يخرج منها بصورة المهزوم.