قطاع غزة: بين التجويع والترويع والتطبيع
مقالات
شاهدنا ومعنا شاهد العالم كله ما حصل مساء الثلاثاء الأخير 17/10/2023، تلك المجزرة والمذبحة المروعة التي وقعت في مدخل وساحة المستشفى الأهلي المعمداني في غزة، حين شاهدنا المجزرة والمذبحة التي راح ضحيتها ما يزيد على 500 من الأطفال والنساء وجرح المئات من أبناء شعبنا الفلسطيني هناك.
الضحايا لم يكونوا إلا أولئك الذين سبق وهدّمت بيوتهم بفعل القصف أو الذين نزحوا بسبب الخوف، فلجأوا إلى المستشفى ظانين أنه ملاذ آمن ومنطقة حرام من ناحية أنه مستشفى، ومن ناحية أنه يتبع لمؤسسات أهلية وكنسية أوروبية فكانت تقديراتهم خاطئة، وخاب ظنهم ليتحولوا خلال لحظات إلى أشلاء ممزقة.
لم يعد خافيًا على طفل صغير أن ما يجري في غزة قد تجاوز ردة الفعل الانتقامية لما حصل صباح السبت 7/10/2023 وإنما هو سحب مخططات من الدواليب واعتبار الفرصة الذهبية قد جاءت لتنفيذها، حيث تنص تلك المخططات على ضرورة تصفية القضية الفلسطينية بتهجير سكان قطاع غزة إلى شبه جزيرة سيناء وتهجير أهل الضفة الغربية إلى ما وراء نهر الأردن، وفي الحد الأدنى إقامة كونفدرالية بين الأردن والضفة الغربية، وإنهاء حلم إقامة الدولة الفلسطينية.
غزة هذه التي كان إسحاق رابين يتمنى أن لو ينام ذات ليلة فإذا أصبح الصبح نظر إلى غزة ليجد أن البحر قد ابتلعها.
ولأن أسلوب ارتكاب المذابح والمجازر كان وسيلة ناجحة جدًا في تهجير أبناء شعبنا الفلسطيني في عام النكبة 1948 حين ارتكبت المجازر والمذابح في العديد من المدن والقرى، كما حصل في دير ياسين وكفر قاسم وقبيا وعيلبون وعيلوط والصفصاف والطنطورة وغيرها.
وعلى وقع وصدى تلك المجازر المروعة كانت القرى الأخرى تخلي بيوتها وتهرب شمالًا إلى لبنان وسوريا أو شرقًا إلى الأردن أو جنوبًا إلى مصر خوفًا من أن يأتي الدور عليها.
يبدو أن تلك التجربة الدموية ما تزال حاضرة في ذهن القيادات السياسية والأمنية الإسرائيلية، وقد اعتبرت الظرف مناسبًا ومواتيًا لتهجير أهالي قطاع غزة، فكانت الرسائل الموجهة إليهم ممهورة بالدم والخوف بضرورة الانتقال من شمال قطاع غزة إلى جنوبه وفتح الممرات التي أطلقوا عليها زورًا “الآمنة” سعيًا للوصول إلى سيناء، ولم تكن مذبحة المستشفى المعمداني إلا شكلًا من أشكال مشروع التهجير.
اللافت والمذهل أن محاولة الوصول إلى ذلك الهدف وهو ترحيل وتهجير أهالي قطاع غزة الذين يزيد عددهم على 2.3 مليون فلسطيني لا يتم فقط عبر الصواريخ والقنابل والمذابح، وإنما يتم عبر التجويع والتعطيش وقطع أسباب الحياة عنهم بما يتنافى مع أبسط معاني الإنسانية التي يتشدق بها قادة ما يسمى العالم الحر في هذه الأيام.
إن رسول الله ﷺ قد قال في الحديث الشريف: “الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار”. أي أنه لا يحق لأحد أن يحرم أحدًا من الناس أيًا كان عرقه أو لونه أو دينه من حقه بالماء ليشربه ولا الغذاء ليأكله ولا الوقود مصدر الطاقة يستضاء به، بينما حكومة إسرائيل تقول وتمارس أنه لا حق للفلسطينيين في غزة بالماء ولا الغذاء ولا الدواء ولا الكهرباء، ولو استطاعت لقالت: ولا الهواء.
وليس أن سياسة التجويع بقصد التهجير هذه تمارسها حكومة إسرائيل، وإنما هي التي تؤيدها بها دول أوروبا وأمريكا ظلمًا وجورًا وتنفذها أنظمة عربية إسلامية خوفًا وجبنًا وتواطؤًا، فلم يصل إلى أهالي غزة شربة ماء ولا حبة دواء ولا لقمة غذاء، رغم أن لمصر حدودًا ومعابرَ مباشرة مع قطاع غزة.
لقد سمعنا وشاهدنا الموقف الأمريكي الداعم لما تفعله إسرائيل بأهالي غزة من اللحظة الأولى عبر الدعم السياسي اللامحدود وعبر الدعم العسكري متمثلًا بإرسال الأسلحة والصواريخ والقذائف، وأتبعتها بإرسال حاملات الطائرات. ولم يقف الدعم المعنوي عند حد إفشال اتخاذ أي قرار يدين إسرائيل في مجلس الأمن، وإنما وصل إلى حد إعلان مسؤولين أمريكيين مثل السيناتور “ليندسي جراهام” ودعوتهم حكومة إسرائيل لمحو غزة عن الوجود.
ثم كانت زيارة الرئيس بايدن إلى إسرائيل في أوج عملية التهجير والتجويع والمذابح التي ترتكبها بحق أهالي غزة، فهل للرئيس الأمريكي بايدن موقف آخر يتوقع أن يقفه في ظلّ السياسة الأمريكية التاريخية المنحازة لإسرائيل منذ العام 1948، ولكن أنّى وكيف للرئيس الأمريكي أن يتحدث عن الأخلاق أو كيف له أن يدين المذابح وهو زعيم الدولة التي ما قامت وتأسست إلا على سياسة المذابح والتهجير والإبادة الجماعية بحق السكان الأصليين من الهنود الحمر.
أمريكا التي ألقت القنابل النووية على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان، والتي حرقت المدنيين في فيتنام وفي أفغانستان وفي العراق وقد استخدمت اليورانيوم المخصب والقنابل النووية التكتيكية. ولم ولن ينسى أهل العراق ولا كل صاحب ضمير ما فعله الأمريكان في سجن أبو غريب والفلوجة ومطار بغداد وملجأ العامرية.
وليس أن قاطرة الوفود الغربية لم تتوقف عند زيارة الرئيس الأمريكي بايدن، فقد سبقه المستشار الألماني ولحقه الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني، وكأن هؤلاء يريدون أن يحصلوا على صكوك غفران مصدرها إسرائيل.
وهل ينسى العالم لبريطانيا مجازرها ومذابحها بحق الايرلنديين فقط لأنهم كاثوليك وليس بروتستانت؟ وهل ينسى العالم مجازرها في كل مستعمراتها في أفريقيا وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط؟
وهل ينسى العالم لفرنسا مجازرها ومذابحها كذلك في مستعمراتها وخاصة ما فعلته بأهلنا وإخوتنا في الجزائر طوال أكثر من 130 سنة استعمار هناك قتلت فيها أكثر من مليون شهيد جزائري، وما زالت تحتفظ بجماجم الجزائريين في متاحفها؟
وأما ألمانيا التي تبجحت بما لم يتبجح به أحد وتباكت بما لم يتقن دورها أحد، فهل ينسى أحد لألمانيا وخاصة اليهود، أنها هي مصدر النازية وبلاد المحارق وأفران الغاز والهولوكوست؟ فهل هذا الموقف المعادي لشعبنا والمنحاز بشكل سافر للرواية الإسرائيلية المطلقة هو استمرار للتكفير عن جرائم النازية بدأ بدعم ألمانيا وأوروبا وأمريكا بإقامة إسرائيل في العام 1948 على حساب نكبة وتهجير شعبنا ولم ينته ولن ينتهي بموقف ألمانيا السافر وتبنيها لجرائم الإحتلال الإسرائيلي بحق أهل غزة، ليصدق في وصف عواصم الغرب ما قاله الشاعر:
واشنطن من مكة ذرة ولندن من طيبة كالهباء
فمن مكة شاع نور الهدى ومن واشنطن شاع سفك الدماء
إن هذا الانحياز السافر والسافل للغرب وفي مقدمته أمريكا للمشروع الصهيوني، عنوانه ما قاله بايدن نفسه منذ سنوات بعيدة: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان يجب علينا العمل لإيجادها”. هذا الانحياز العنصري الطائفي اللاأخلاقي واللا إنساني مرده إلى معتقدات دينية مفادها أن بقاء إسرائيل هو ضمان تعجيل لنزول المسيح المخلص الذي لن ينزل إلا في أرض يحكمها اليهود. ولأن هذا لا ينطبق على أي أرض في العالم إلا على إسرائيل، فلذلك هم يدعمونها.
ثم إن هذا الانحياز السافر مرده إلى نظرة الاستعلاء والعنجهية الغربية الصليبية التي تنظر إلى العرب والمسلمين أنهم حيوانات بشرية. وهذا التعريف هو ما كان قادة الحملات الصليبية التاريخية يصفون به المسلمين لتأجيج عداوة شعوبهم لهم. ثم إن هذا الانحياز السافر كذلك مرده إلى أن قادة الغرب اليوم بما يملكون من مقدرات عسكرية واقتصادية وإعلامية، فإنهم يتعاملون وكأنهم إله ورب هذا الكون الذي يحق له أن يفعل ما يريد وفق منطق فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} آية 24 سورة النازعات. ومنطق النمرود {أَنَا۠ أُحْى وَأُمِيتُ} آية 258 سورة البقرة.
وإذا كان لقادة الغرب الذين حجّوا إلى إسرائيل الواحد تلو الآخر ما يبررون به هذا الصلف والانحياز السافر، فكيف لزعماء العرب والمسلمين أن يبرروا صمتهم وتخاذلهم وخذلانهم لأبناء قوميتهم ودينهم وإخوانهم، حيث لا تفسير لهذا الانخراس والخذلان إلا أنه الحرص منهم على استمرار مشاريع التطبيع مع إسرائيل ولتذهب غزة إلى الجحيم. وعليه وبدون إطالة حديث عن هؤلاء فإذا كان أحد ما زال يؤمل خيرًا بأصحاب الجلالة والفخامة والسيادة والسمو، فأنا شخصيًا لا أراهم إلا خشبًا مسندة وهياكل محنطة وأمواتًا والميت لا يستنجد به ولا ينتظر منه خيرًا، وصدق فيهم قول الشاعر:
ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
رغم هذه السياسة الإسرائيلية الغاشمة..
ورغم هذا الانحياز الغربي السافر..
ورغم هذا الخذلان العربي المخزي..
فإنه سيظل يحدونا الأمل إلى غدٍ مشرق ومستقبل أفضل بإذن الله تعالى.
لا عزاء للمحبطين والمتشائمين واليائسين..
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..