في الشأن الفلسطيني: قراءة في مقابلة محمد بن سلمان
مقالات
بمعزل عن موقفنا من التطبيع والسلام بين حكام العرب وإسرائيل وما يدور هذه اللحظات من مفاوضات جادة في تجسير الهوة بين الجانبين السعودي والإسرائيلي لتحقيق سلام بينهما، فإن المقابلة التي أجراها محمد بن سلمان مع محطة “فوكس نيوز” ذات أهمية خاصة جدًا تحتاج إلى تفكيك وقراءة متجددة لسعودية الحاضر والغد، وكيف ستكون السعودية وفقًا للرؤية التي يؤمن بها ابن سلمان، وما تحمله من تأثيرات راهنة ومستقبلية على صيرورات العلاقات في المنطقة بين الحكام والشعوب وأدوات التطبيع مع إسرائيل، وكيفية العلاقة مع الحركات الرافضة لإسرائيل وفي مقدمتها الحركات الإسلامية وإن كانت السعودية الدولة قد تقدمت خطوات في هذا المجال عبر فتاوى وتصريحات أعدت خصيصًا لهذا الموضوع، مما سيشكل تحديًا متجددًا ومتناميًا للإسلاميين وغيرهم من العروبيين خاصة مع إعادة العلاقات الإسرائيلية التركية عبر قنوات مدنية- سياسية وليست أمنية فقط.
أثارت المقابلة التي أجراها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع فوكس نيوز الإخبارية الخميس الماضي ردود أفعال متباينة اتجاه المقابلة وحيثياتها، كشفت عن رؤية واضحة المعالم لبن سلمان اتجاه مستقبل بلاده وكيف ستكون في السياق الأمني والاقتصادي وكيف يرى مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
التطبيع ماضٍ وبزخم هائل
كشفت المقابلة عن جوانب هامة من الجدل المُتعلق بالتطبيع مع إسرائيل خاصة وأن صيرورة تاريخية جمعت الرياض وتل أبيب منذ قيامها تقريبًا في سياق المصالح الخاصة بالبلدين فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط (انظر مقالتنا في المدينة يوم 31\5\2023). وما يهمنا في هذه المقالة الطروحات التي تقدم بها في إجاباته على سؤال القضية الفلسطينية والتي أكدت وجود مفاوضات تحت رعاية أمريكية، إذ يتبين من خلال كلماته وما رافقها من تطورات للأحداث على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي، أن التطبيع ماضٍ وبقوة، فوزير السياحة الإسرائيلية حاييم كاتس، حط رحاله الثلاثاء الفائت في الرياض، في أول زيارة معلنة لوزير إسرائيلي مشاركًا في مؤتمر نظمته منظمة السياحة التابعة للأمم المتحدة، وهو ما يتساوق وتصريحات بن سلمان في المقابلة مع فوكس نيوز بسعيه لتعدد مصادر الدخل القومي لبلاده، حيث يسعى ببلاده لتعزيز الاستثمار في السياحة كجانب من جوانب الدخل القومي وجعلها من الدول المتقدمة عالميًا في هذا الجانب، وهذا يشير من حيث المبدأ إلى تطلع سعودي لتعاون سياحي مع إسرائيل وجلب السائح الإسرائيلي إلى بلاده خاصة وهو يراقب ما يجري في هذا الباب تحديدًا مع جارته الإمارات العربية المتحدة، وقد تلقى الإعلام الإسرائيلي هذه الزيارة بحفاوة بالغة معتبرًا إياها تاريخية وفارقة ومهمة للغاية في تسيير أمور التطبيع مع السعودية، إذ تعتبر إسرائيل أن التطبيع مع السعودية هو الأهم في تاريخ وجودها، وهذه الزيارة وما سيلحقها من زيارات تكشف عن أن السعودية في تطبيعها مع إسرائيل تعمل على عدة مسارات تفصل بينها عمليًا، فالتطبيع مع إسرائيل غير مشروط كما يبدو في تقدم الملف الفلسطيني الذي طالما تبنته المملكة بدليل هذه الزيارات وإصرار بن سلمان على أنها ماضية مستمرة، وهذا ما يتساوق وتصريحاته في المقابلة بعمله الدؤوب على جعل السعودية في مصاف دول العالم وبالتالي تحتاج إلى تعزيز علاقاتها مع دول العالم أجمع وسياساتها في ذلك عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول، ومن ثم فلا يهم السعودية من يحكم في إسرائيل وما هي سياساته الداخلية ومواقفه من مختلف القضايا بما في ذلك الموقف من المقدسات وعموم القضية الفلسطينية. هذا من حيث ظاهر التصريحات التي هي السقف الأعلى للسياسات السعودية.
القضية الفلسطينية وسؤال التطبيع
بين هذه المقابلة وخطاب وزير الخارجية السعودي الذي لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى سؤال التطبيع مع إسرائيل من على منصة الأمم المتحدة، وتصريحات كبار القادة الإسرائيليين وفي مقدمتهم نتنياهو حول التطبيع وتفاخره من على منصة الأمم المتحدة، جرى ولا يزال ماء كثير في نهر العلاقات السعودية الإسرائيلية التي لم تبدأ بالقطع خلال دورة بايدن وإن كان قد أعاد المساعي مجددًا.
لست من الذين يؤمنون بالمؤامرة وأن العقل الصهيوني عقلًا ملهمًا وعبقريًا بقدر إيماني أن العقل الصهيوني ومن قبله اليهودي متقن في اقتناص الفرص فلا يضيعها ويكاد يكون مدرسة في هذا الباب، يمكن للمراقب وقارئ التاريخ الحديث لليهود إدراك ذلك بسهولة خاصة منذ خروجهم من الأندلس وإلى هذه اللحظات، وكون اللوبي الصهيوني نافذًا في واشنطن وأن الرياض تطلب دفاعًا استراتيجيًا مشتركًا مع الولايات المتحدة كما ينص البند الخامس من اتفاقية الناتو، وتسليحًا نوويًا “سلميًا” يتم فيه تخصيب اليورانيوم على الأراضي السعودية وبأيدٍ سعودية، فقد جاءت الفرصة التاريخية لتحقيق سلامٍ مع الرياض على أساس من العلاقات مع واشنطن ومعادلة هذا السلام إسرائيليًا مقابل الحماية الأمريكية التطبيع معها، علما أن العديد من الاستراتيجيين الإسرائيليين يرفضون معادلة التسلح النووي السعودي رفضًا مطلقًا فيما يعمل نتنياهو على إقناع مجلس الأمن القومي والهيئة النووية على قبول الطلب السعودي الذي يبدو أنه شرط أساس في تقدم التطبيع، ولعل إشارة بن سلمان إلى أن مصلحة واشنطن الاقتصادية تعزيز علاقاتها مع الرياض وبناء حلف استراتيجي في ظل تعدد اللافتات العالمية، إشارة سعودية إلى أنها ليست بالضرورة بحاجة إلى التطبيع مع إسرائيل كما أنها ليست بالضرورة بحاجة إلى واشنطن في ما يتعلق بالشراكات الدولية والدفاعات المشتركة وتنوع سلاحها مع تعدد القوى العالمية.
في مؤتمر صحفي مشترك جمع وزراء دول الخليج ووزير الخارجية الأمريكية في الرياض يوم الثلاثاء “8/6/2023″، قال بلينكن إن واشنطن تعمل على تكامل إسرائيل في الشرق الأوسط، وتعميق الاتفاقات الموجودة أصلًا وتوسيعها، وعلق وزير الخارجية السعودي على تصريحه بقوله: “من دون وجود سلام مع الفلسطينيين فإن أي تطبيع مع إسرائيل ستكون فائدته محدودة”. وأضاف: “يجب علينا أن نركز على الوصول إلى مسار يوفر السلام والعدالة والكرامة للفلسطينيين، وأعتقد أن الولايات المتحدة لديها نفس الوجهة، ومن الأهمية بمكان أن نستمر في هذه الجهود”… وهو ما يتساوق وموقف المملكة من خلال تصريحات عديدة ظاهرها العمل على تحقيق حياة مدنية للفلسطينيين وليس حياة سياسية، بمعنى الاستقلال السياسي والتمكين.
كون المقابلة مع شبكة فوكس نيوز الصهيونية والموالية للوبي اليهودي في الولايات المتحدة تحمل بحد ذاتها رسائل إلى جهات صهيونية ويهودية في الولايات المتحدة وفي إسرائيل على حد سواء، فإنها أيضًا تحمل رسائل إلى الفلسطينيين.
لقد أكد محمد بن سلمان أن المفاوضات جارية ولم تتوقف وأوضح أن القضية الفلسطينية محور في المفاوضات، فقوله في المقابلة: “منح الفلسطينيين احتياجاتهم وجعل المنطقة هادئة” وذلك ضمن سياساته الاستراتيجية الرامية إلى تصفير المشاكل في الشرق الأوسط لتعزيز فرص تقدم السعودية عالميًا وفي الشرق الأوسط وتعزيز مكانتها، وبالتالي يصبح سؤال القضية الفلسطينية مهمًا سعوديًا وهو ما يتطلب من الفلسطينيين ذكاءً سياسيًا لاستثمار هذه اللحظة. فكما أنَّ الصهيونية العالمية متفوقة في اقتناص الفرص لتحقيق وتعزيز مكانة ووجود إسرائيل، من المفترض أن يكون الفلسطيني كذلك بما لديه من أدوات.
يبدو أن السعودية تعمل على إجراء عملية جراحية في القضية الفلسطينية مخرجاتها الأساس هدوء فلسطيني مقرون بحياة كريمة “اقتصاد” يرافقه بعض من المواقف اتجاه القدس والأقصى بما يتناسب ومكانة التمثيل الدبلوماسي الجديد يُبقي على حياة السلطة الفلسطينية من جهة ويخفف عن الفلسطينيين من جهة أخرى ويبقي الإسرائيلي بمواقفه المتشنجة.
ابن سلمان رفض في هذه المقابلة الإفصاح عن حجم التنازلات المطلوبة من الإسرائيليين وكيف سيكون شكلها وكان جوابه: “هذا جزءٌ من المفاوضات. لا أريد الدخول في التفاصيل لأني أريد حياة طيبة للفلسطينيين”. وفي لحظة معينة قال بن سلمان: “نعمل على ترتيبات السلام بين إسرائيل وفلسطين”. وحول هذه الجملة تتناسل العديد من الأسئلة منها على سبيل المثال لا الحصر: هل فعلًا التطبيع مع إسرائيل مصلحة استراتيجية سعودية عليا بناء على إجابات محمد بن سلمان في المقابلة المذكورة؟ وهل فعلًا سؤال القضية الفلسطينية مركزي في التوجه السعودي اتجاه التطبيع؟ وهل السعودية تستغل القضية الفلسطينية لتحقيق التطبيع؟ وهل اشترطت السعودية في التطبيع مع إسرائيل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة في أراضي عام 1967؟ وهل هذا التصريح يتساوق مع تقديم أوراق اعتماد السفير السعودي لدى الأردن الثلاثاء الفائت، نايف بن بندر السديري، سفيرًا فوق العادة، مفوضًا غير مقيم لدى الأراضي الفلسطينية، وقنصلًا عامًا في مدينة القدس، حسبما أفادت وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)؟ وهل تصريحاته من أن المملكة تعمل من أجل “إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية” تعبر فعلًا عن موقف سعودي ثابت في معنى قيام دولة فلسطينية؟ وكان السديري، قد كتب عبر صفحته على منصة “إكس”، تويتر سابقا، يوم الثلاثاء الفائت: “من دولة فلسطين الحبيبة أرض كنعان أجمل التحيات مقرونة بمحبة مولاي خادم الحرمين الشريفين وسمو سيدي ولي العهد” حسب قوله.
الأيام القادمة ستكشف هل فعلًا القضية الفلسطينية سؤال أساس في تحقيق السلام بين الدولتين.