إسرائيل: الانقسام الداخلي يتعزز ويأس من التوافق

في العاشر من تموز \يوليو، أقر الكنيست الإسرائيلي بالقراءة الاولى تعديلا قانونيا يحد بشكل جوهري من صلاحيات المحكمة العليا تجاه فاعلية قرارات الحكومة وسياستها، وهو ما يعرف بـ"فقرة التجاوز". في اليوم التالي تم تنفيذ ما أعلنته حركة الاحتجاج ضد الانقلاب القضائي، وتمت منذ ساعات الصباح الباكر من ذاك اليوم وحتى المساء المتأخر، عملية تعطيل منظمة للحياة العامة في الدولة، وتوقف مختلف نواحي الحياة في الاقتصاد والخدمات والتنقل والحياة العامة بما فيها التظاهر داخل مطار بن غوريون. تميزت المظاهرات بالتصعيد والإصرار على وقف التشريعات التي تشكل بنظرهم انقلابا على الحكم في إسرائيل وليس إدارة الحكم كما تقوض صلاحيات أية حكومة.
تجد اسرائيل نفسها دولة ومجتمعا في خضم أزمة تعصف بـ “العقد الاجتماعي" الداخلي ولا يبدو اي مخرج، لتتحول بوتقة الصهر الى حالة معطَّلة لتسود مكانها حالة التفسّخ العدائية داخل المجتمع وكذلك الصراع المتصاعد بين الدولة والحكومة الحالية. وفي عودة موجة التلويح باتساع وتعمق ظاهرة رفض الخدمة في الاحتياط وحصريا في سلاح الجو والاستخبارات وقوات النخبة. فقد شهدت المظاهرات والتشويشات تصعيدا فيه معالم من العصيان المدني، وفيه صدام داخلي لم تشهده اسرائيل منذ عقود ان لم يكن في تاريخها، وكل الدلائل تشير الى احتمال تحوله من نضال سلمي الى صراع عنيف مع ازدياد عنف الشرطة وعدد المعتقلين واعتداءات جمهور اقصى اليمين على المتظاهرين لتصل الى حالات الدهس والاستعداد للقتل.
حذر قائد الأركان هرتسي هليفي من أن اتساع نطاق الإعلان عن رفض الامتثال فوريا للخدمة في الاحتياط، وأكد ان رفض مئات الطيارين للامتثال للخدمة في الاحتياط والتي تبلغ بالمعدل 54 يوما سنويا، سيلحق ضررا جوهريا مباشراً في جهوزية وقدرات سلاح الجو لمواجهة المخاطر الخارجية. تجاوزت المواجهات الشوارع والساحات وجاء نداء دعم المئات من قادة الجيش والطيارين ومساعدي الطيارين السابقين للرافضين بمثابة ضربة قوية لنتنياهو الذي يخشى تحمل مسؤولية فشل سلاح الجو وهو الذراع الاستراتيجية الأهم في إسرائيل، خاصة وا=أن من وقع على النداء المذكور، قادة أركان وقادة سلاح الجو ورئيس أركان سلاح الجو السابقين.
بينما يأتي الضغط الموازي من الإدارة الأمريكية وبشكل منهجي ومتصاعد، سواء من الرئيس بايدن ام مستشار الأمن القومي ساليفان وسفيره في تل أبيب نايدس، وهو أبعد من التصعيد وانما وكما وصفه الصحفي والمحلل توماس فريدمان في نيويورك تايمز أنه "اعادة النظر في السياسة الامريكية تجاه اسرائيل"، بينما حصر بايدن موقفه الحازم في نقد حكومة نتنياهو ورئيسها بسبب خضوعه "للمتطرفين" من الوزراء، وتفويت فرصة التطبيع مع السعودية "التي باتت بعيدة" معللا موقفه بأنه دفاع عن اسرائيل.
ميدانيا، اشارت مظاهرات 11 تموز\ يوليو الى عمق العداء السائد بين أطراف المجتمع الاسرائيلي، والى وجود شرخ عميق للغاية بين جمهور الصهيونية الدينية وفي مقدمته المستوطنون العقائديون وشرائح من نخب اليهود الشرقيين، وبين الطبقات الوسطى والغنية والنخب العسكرية والاقتصادية التي تتصدر المعارضة، وهذا ينعكس على الجيش ايضا وعلاقته بالمستوطنين ومنظماتهم الارهابية. وهو ما من شأنه أيضا، تعزيز ظاهرة رفض الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة عام 1967 والتي يقع في صلبها حماية المستوطنين وفقا لسياسة الحكومة.
وفقا للتقديرات المختلفة فإن أكثر ما يقلق نتنياهو هو الضغط الأمريكي المباشر، ورفض الطيارين في الاحتياط للخدمة العسكرية، وتحوّل الائتلاف الحاكم الى عبء على مصلحة اسرائيل العليا ومستقبلها الاقتصادي والأمني. هناك حالة قلق داخل الصهيونية الدينية من قيام نتنياهو بما يسمى "الانفجار الكبير" في السياسة الاسرائيلية على غرار ما قام به شارون في حينه واقامة حزب "كاديما" على حساب الليكود، ويشمل "الانفجار" تخلص الائتلاف الحاكم من حزبي الصهيونية الدينية (سموتريتش) والقوة اليهودية (بن غفير) ودخول المعسكر الرسمي بقيادة غانتس للائتلاف، عليه جاء هذا التخوف من خلال موقع "سروجيم" الناطق باسم تيار الصهيونية الدينية، والذي نقل عن عضو الكنيست حيلي تروبر القيادي في المعسكر الرسمي بأن وزراء قياديين من الليكود توجهوا له بهذا الصدد منوّهين إلى أن الليكود مضطر الى الرهان على حزبي الصهيونية الدينية كي يبقى في الحكم، ولا بدائل لهم سوى غانتس. وقد انبرى تيار التطرف للهجوم على ادارة بايدن باعتبارها تنسق مواقفها مع لبيد وغانتس.
بتقديرنا يلتقي هذا التوجه مع موقف إدارة الرئيس بايدن الذي يقوم بحملة ضد "الوزراء المتطرفين" وينتقد نتنياهو بينما يُبقي له مخرجا بالتفتيش عن ائتلاف بديل، إذ لا تستطيع الادارة الامريكية اسقاط حكومة نتنياهو وفرض انتخابات جديدة، خاصة وانها ستدخل قريبا في عام الانتخابات الامريكية مما سيضعف أثرها، ليصبح هذا الخيار الاكثر احتمالية، لـ"حماية مصالح اسرائيل"، وهي في جانبها نتيجة ضغوطات في الحزب الديمقراطي ومن قبل قطاع واسع من يهود الولايات المتحدة.
من اللافت تقلص حضور الأطراف المحدودة اصلا من فلسطينيي ال48 في المظاهرات وأعمال التشويش، باستثناء مشاركة محدودة في إطار "الكتلة ضد الاحتلال" والتي تشارك اسبوعيا بصورة مستقلة عن قيادة المظاهرات وباتت في حالة صدام مباشر معهم نظراً لمحاولة استبعادهم من التظاهر.
خلاصة:
• فلسطينيا وعربيا، لا توجد في الحالة الاسرائيلية اية بشائر لا من الائتلاف الحاكم ولا من المعارضة ولا مكان للرهان على انتظار الفرج من إسرائيل الراهنة، بل أن أي استنهاض للحالة الفلسطينية ومقاومة الاحتلال والاستيطان ووحدة الصف الفلسطيني من شأنها أن تعمق أزمة الائتلاف الحاكم وان تؤثر على الرأي العام الاسرائيلي غير المكترث بقضية فلسطين وشعبها والذي رغم تعمق الشروخات الداخلية يبقى موحدا الى حد كبير في مسألة فلسطين واستمرار الاحتلال.
• تراجع فاعلية "بوتقة الصهر" الاسرائيلية التي تقع في صلب المشروع المشروع الصهيوني وعقيدته، والتي بُني على اساسها مجتمع قوي ومتماسك مقتنع بوحدة المصير والأهداف، وحلول حالة الشرخ العميق غير القابل للجسر على الأقل في المدى القريب، من شأنه أن ينعكس على ظهور حلول ورؤى مستقبلية، وتجليها الأبرز تتنافى مع أصحاب رؤية الدمج القائمة، والاستعاضة عنها بكيانات سكانية تتقاسم السلطة أكثر منها مندمجة فيما بينها. وهي أفكار تحمل في طياتها مخاطر على الفلسطينيين، لكنها تحمل فرصا في هذا الصدد، وهذا منوط بالفعل والاداء الفلسطيني، وفي حال أدرك المجتمع الاسرائيلي محورية قضية فلسطين ليس كقضية خارجية وإنما كقضية تؤثر بشكل عضوي على كل ما يحدث في اسرائيل، اذ أن جلّ التشريعات المطروحة منشغلة في كيفية تجاوز العقبات الاجرائية والقانونية التي تعيق تطبيق السياسات تجاه الفلسطينيين من جانبي "الخط الأخضر".
• الحالة الاسرائيلية تولّد اليأس الداخلي من امكانيات التوافق، وعليه فإن التصعيد الصدامي قد يتعمق ويتسع، وقد يصل حد العنف والاغتيال السياسي. وتتسع دائرة التأييد لتغيير تركيبة الائتلاف الحاكم.
• الصهيوينة الدينية بوصفها تيارا، تدرك أنها في سباق مع الزمن وعليها فرض الامر الواقع على الأرض الفلسطينية بأوسع نفوذ وبأسرع وتيرة، ومن المتوقع ان تدفع وتحرض على أعمال دموية بنطاق واسع سواء من من جانب الحكومة والجيش ام من العصابات الارهابية وميليشياتها المسلحة.
• قوة الشعب الفلسطيني وتدارك معالجة نقاط ضعفه وتعزيز نضاله التحرري من شأنها ان تحبط المخططات الاسرائيلية وان تسد كل الطرق أمام تصدير الازمة الاسرائيلية إلى الفلسطينيين.