الخارطة السياسية الإسرائيلية ومسائل التآكل الحزبي (3/3)


  • الاثنين 15 مايو ,2023
الخارطة السياسية الإسرائيلية ومسائل التآكل الحزبي (3/3)
توضيحية

الحياة السياسية في الدولة الديموقراطية أيًا كانت ماهياتها، تتخلق في طور الرؤى التي تطرحها الأحزاب المُشكّلة للفعل السياسي في السياق التعددي للأحزاب الذي هو في جوهره أحد ماهيات الديموقراطية، برسم حرية التعبير عن الرأي وعن الفعل السياسي سعيًا لتحقيق العدالة وفقًا للقيم والمعايير التي تؤمن بها الدولة.

الواقع السياسي للأحزاب الإسرائيلية في تردٍ مستمر لما يتوقف منذ قيامها وإلى هذه اللحظات، وهذا التردي الحزبي سياسيًا يتجلى في العديد من المشاهد السياسية مثل الانتماء للأحزاب، إذ ثمة تراجع كبير في الانتساب للأحزاب حتى الأيديولوجية منها، بل وصل الأمر بأحزاب كبرى مثل الليكود أن يكون في مكوناته من مهمته مهمتهم الأساس تجنيد للحزب، وقد أثبتت الحراكات السياسية الإسرائيلية كم هو حجم تأثير هؤلاء المقاولين داخل أروقة الحزب، وما يملكون من أوراق تأثير داخل صناعة القرار في الصف القيادي الأول، وهؤلاء ليسوا أكثر من مقاولي أصوات يعملون ضمن معادلات مصالحية واقتصادية صرفة تتلبس ثوب المصلحة المحلية الصرفة المتجلية عبر أدوات سلطوية تمكنهم اقتصاديًا، من مثل السيطرة على مرافق بعينها في الدولة تمكنهم اقتصاديًا، يقابلها عمل دؤوب للتجنيد للحزب لتحقيق أكبر كم ممكن من الأصوات المصبوبة في الكنيست لصالح الحزب. يتميز هؤلاء المقاولون ومن يتبعهم، بمستوى متدنٍ من الفهم والإدراك السياسي في الشأنين المحلي العام على مستوى المجتمع والدولة والمواقف البائسة من المقابل السياسي وإن كان من نفس التيار، ولذلك وعلى سبيل المثال لا الحصر، رأينا زمر اليمين الليكودي يقفون أمام بيت نفتالي بينيت ابن التيار الديني الصهيوني المتشدد ويتهمونه أنه من اليسار ويصفونه بأقذع الأوصاف، وفي الوقت ذاته يتسمون برسم شعبويتهم بالتشدد السياسي والتطرف مع الفلسطيني، والتماهي مع المجتمع (الفئات الضعيفة التي تتبعهم سياسيًا) ضمن معادلاته الاجتماعية- المعيشية.

نلحظ تراجع الأحزاب من خلال التفاعل السياسي بين الأحزاب ومحيطها العام “المجتمع”، ويتجلى بوضوح مستوى التراجع في مسائل الثقة بين الأحزاب وقواعدها الانتخابية أو بين الأحزاب وعموم المصوتين، وقد تضافرت استطلاعات الرأي في الإشارة إلى أزمة الثقة بين الأحزاب وعموم الناخبين، ونلحظ تراجع دور الأحزاب في الحياة السياسية المحلية (السلطات المحلية لصالح أشخاص ومجموعات المصالح والضغط )، وفي العشريات الأخيرة بات الواقع السياسي الحزبي الإسرائيلي، يشهد دورًا متصاعدًا لجماعات المصالح داخل الأحزاب المُشكّلة للحكومة ضمن الائتلافات التي توقع اتفاقياتها، واتسعت رقعة هذه الجماعات داخل الكنيست وحاجة هذه الأحزاب إليها حيث تتم راهنًا عمليات المُقايضة بين الأحزاب الممثلة في الكنيست وجماعات المصالح التي من الممكن أن تكون شركات أو مؤسسات أو مؤسسات مجتمع مدني أو مصالح اقتصادية كبرى، سواء كانت تجمعات أو أسر أو أفراد، حيث يتم التواصل بين أفرادٍ من أعضاء الكنيست وممثلين عن هذه المصالح “لوبيات تعمل داخل أروقة ومؤسسات الكنيست” يمارسون الضغط السياسي من أجل تحقيق مصالحهم.

تعتبر قضية الشخصنة وتعظيم القائد ظاهرة عالمية ليست خاصة بالإسرائيليين، وهي محل أبحاث ودراسات عالمية ليست خاصة في المجتمع الإسرائيلي، لكنَّ عقل وفكر ومعتقد وفكرة ملك إسرائيل، تستحوذ على الحالة الحزبية خاصة داخل اليمين الإسرائيلي الذي برسم أيديولوجيته أقرب إلى الفكر التلمودي الذي أشاع فكرة الملك كتعبير عن الدولة والسطوة والحكم. ولقد رأينا حالة التعامل مع نتنياهو، الذي أرى فيه ظاهرة مميزة في السياسة الإسرائيلية من حيث علمانيته واستغلاله أدوات دينية وأساطير تلمودية وتوراتية لتعزيز مكانته السياسية داخل حزبه وعموم تيار اليمين والمجتمع الإسرائيلي، وقد كان من آثار هذا السلوك السياسي، السماح بتغلغل أفراد من اليمين الديني الصهيوني إلى الحزب بل وثمة دراسات تتحدث عن مسيرة وصيرورة آخذة بالتخلق داخل حزب الليكود تشي بتمدد الدينية الحاريديلية داخل الحزب، وكل ذلك متعلق ابتداء بشخصية الرئيس وشخصنة الحزب ملازم للعملية السياسية الحزبية منذ قيام إسرائيل، إذ تجلى ذلك في شخصيات اتسمت بالكرزماتية أمثال بن غوريون وبيغن.

التآكل الداخلي للحزب عبر تصفية قوى سياسية فيه ضمن حرب المصالح الداخلية في تلكم الأحزاب، قائم في التاريخ السياسي لكافة الأحزاب، وقد تحدثت مذكرات العديد من القيادات السياسية المبامية عن دور بن غوريون بالتجسس على قيادات حزبية تحت زعم سلامة المنهج والطريق، ومسألة التصفية السياسية رأيناها جليًا في كيفية تصفية نتنياهو لما يسمى بجيل الأمراء في الليكود أمثال دان مريدور وبيني بيغن وأولمرت وليفني.

عدم نجاح الأحزاب في تصاريف طروحاتها السياسية والاجتماعية وجعلها واقعًا معاشًا مما جعل قواعدها الملتزمة تتذمر منها وتتجه نحو أحزاب أخرى، هو ما خلق حراكًا حزبيًا داخليًا أفضى إلى ما يسمى راهنًا في السياسة الإسرائيلية “سياسة المعسكرات”، لينتهي الوضع السياسي الإسرائيلي إلى ثلاثة معسكرات، معسكر اليمين ويضم الأحزاب الدينية الحاريدية والأحزاب الدينية الصهيونية، والقومية اليهودية والليكود، وأحزاب المركز التي في سياقها الأيديولوجي تتخذ اليمين خطًا لها والليبرالية السياسية عنوانًا لها والاشتراكية الاجتماعية سياستها الاجتماعية، وهذا المزيج لا تجده إلا في إسرائيل، ويضم هذا التيار راهنًا أحزاب “يش عتيد” و “إسرائيل بيتنا” و “المعسكر الرسمي” الذي يقوده غانتس، واليسار ممثلًا بحزبي العمل وميرتس الحركة التي فشلت في تجاوز نسبة الحسم في انتخابات عام 2022 (الكنيست الـ 25)، ويتميز اليسار الإسرائيلي بتراجعه السياسي المستمر خاصة في ظل عمليات الانزياح السياسي التي حدثت بعد أوسلو.

تحددت فواصل التمييز بين الأحزاب الإسرائيلية بناء على خمسة معايير كلها ترتبط بالوضعية السياسية لإسرائيل ككيان: العلاقة مع الفلسطينيين بعد اتفاقية أوسلو والمواقف منها، العلاقة مع الداخل الفلسطيني والمواقف من هذه المجموعة السكانية صاحبة البلاد، العلاقة مع قطاعات المجتمع الإسرائيلي الساكنة فيما يسمى بمدن التطوير، العلاقة مع المستوطنين والموقف من الاستيطان، العلاقة مع مدينة القدس والموقف من المسجد الأقصى المبارك.

مستقبل الأحزاب الإسرائيلية في ظل التحولات المجتمعية الجارية

كشفت القناة 12 الإسرائيلية، أنّ ثمن الائتلافات الحكومية التي عقدها نتنياهو وحزبه مع الأحزاب المؤتلفة معه بناءً على الاتفاقيات الائتلافية تجاوز رقم الـ 5 مليار شيقل (1,4 مليار دولار).

وهذا في حقيقته انعكاس لتأثير عمليات الانزياح السياسي مجتمعيًا وتعاظم قوة الأحزاب الدينية فضلًا عن عموم التحولات الجارية في المجتمع الإسرائيلي التي تشير إلى اتجاه المجتمع الإسرائيلي نحو التدين والمحافظة، وهو ما يراهن عليه التيار الديني على اختلاف توجهاته السياسية-الدينية وهو ما يتضح راهنًا في الميزانية المذكورة آنفًا عبر الأموال التي ستصب في تعزيز الثقافة الهوياتية المؤسسة على قيم التوراة والتلمود، وتعزيز العلاقة مع القدس وما يسمونه الهيكل، تماهيًا مع القيم الدينية التي تعمل الحكومة الراهنة على تذويتها بين قطاعات الطلاب في المدارس اليهودية كقيم حياتية وسلوكية وأخلاقية.

تشير الدراسات السياسية للحالة الحزبية الإسرائيلية في صيروراتها السياسية وجدل العلاقة القائم مع المجتمع وحركته الحياتية ومتطلباتها، والسياسة ومتطلباتها، والقيم الناظمة لهذه الأحزاب، أنها تكون في سياقات مسيرتها بين أحوال ثلاثة بعدئذ أخذت حظها من الحضور والتأثير: الاندثار، الاندماج، إعادة ترتيب الأوراق الداخلية: الاندثار من الحياة السياسية نهائيًا وهي الأحزاب المصلحاتية التي جاءت لتحقيق مصالح بعينها ولكن في خطوطها السياسية العامة تتماهى مع واحد من التيارات التي ذكرت آنفًا، وأحزاب تتعرض للتآكل المستمر وتنقذ نفسها في لحظاتها الأخيرة عبر انفوزيا الائتلافات والاندماج بأحزاب أكبر وأكثر نفوذًا مجتمعيًا، وهو ما يحدث مع الأحزاب الصهيونية اليمينية، وهذا ما حدث على سبيل المثال لا الحصر مع القوى الليبرالية التي اندمجت بحزب الليكود ومن قبل مع حيروت في منتصف ستينيات القرن الماضي، وما حدث مع حزب العمل الذي تأسس عام 1968 مزيجًا من أحزاب: مباي وأحدوت هعفودا وعمال صهيون “بوعلي تسيون وحزب رافي، وقد عانى الحزب كحال أحزاب اليسار في العالم من انقسامات داخلية، ففي عام 1996حدث الانشقاق الأول فيه وانشقت عنه كتلة الطريق الثالث وكان رئيسها أفيغدور كهلاني، وسبب الانشقاق الملفان الفلسطيني والجولان والانسحاب المشروط منهما حيث رفض كهلاني الانسحاب الإسرائيلي وانضم لاحقًا في ائتلاف مع حزب الليكود، وكان الانشقاق الآخر عام 1999 إذ انشق عن الحزب عامير بيرتس ورفيق الحاج يحيى وأديسو ماسيلي، وتعلق الانشقاق بقضايا اجتماعية وسياسية. ويعاني حزب العمل من تآكل كبير في السنوات الأخيرة ومهدد وفق استطلاعات رأي معتبرة بعدم اجتياز نسبة الحسم في أي انتخابات قادمة، مما دعا مؤخرًا قيادات داخل الحزب إلى العمل على الاندماج مع حزب ميرتس اليساري الذي لم يتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات الأخيرة وإعادة ترتيب الأوراق الداخلية في ظل وجود مرجعيات عليا، وهو ما ميزَّ الأحزاب الدينية الحاريدية والصهيونية الدينية، وهذه الأحزاب في ظل وجودها القطاعي الممثل لقطاعات محددة من الناس فإنها تتمتع بالبقاء والتمدد، أولًا بفضل التعداد السكاني المتزايد الذي يعتبر عمليًا خزان أصوات مستمرًا لا ينضب، وثانيًا بفضل وجود المرجعيات الدينية التي تعتبر توصياتها رسائل مقدسة تستوجب الطاعة والتنفيذ.

التحولات داخل المجتمع الإسرائيلي تشي أننا أمام تحولات أيديولوجية عميقة تؤثر في المجتمع تتجه نحو أكثر تشددًا وأكثر تطرفًا، ولعل الجريمة النكراء التي ارتكبها المدعو دنيس بوكين من مستوطنة جان نير الواقعة على أراضي صندلة ومقيبلة عشية يوم السبت بقتله بدم بارد الشاب ديار عمري، بيان لحجم الكراهية الآخذة في الانتشار في مجتمع تقوده مجموعة من القيادات الشعبوية المتطرفة التي تراهن في وجودها السياسي على تعظيم حالتي العداء للفلسطينيين، عموم الشعب الفلسطيني وكراهية اليسار الإسرائيلي، وهذه التحولات سيدفع ثمنها الداخل الفلسطيني في الدرجة الأولى.

لقد ذهب بعض الباحثين والمفكرين الإسرائيليين (د. ران بيرتس. د. شجيا الباز) إلى أن المجتمع الإسرائيلي ليس مجتمعًا مستقطبا أو يعاني من تصدعات واستقطاب مجتمعي وطبقي واقتصادي، بل هو مجتمع يتجه نحو الانفصالية الداخلية إذ يتخلق مجتمعات، مجتمع ديني حاريدي وصهيوني ديني-قومي وثالث حاريديلي، يسعون لتحقيق حكم الشريعة. ولعل الميزانية التي أقرّتها الحكومة الأحد المنصرم وذكرت بعضًا من معالمها في متن المقالة، تؤكد أن هذه المجموعة السكانية مصرة على تديين المجتمع إذ تراهن على الأجيال الناشئة. ويتحسب بعض من الباحثين الإسرائيليين من أن اليمين الإسرائيلي الذي في معظمه مجتمع محافظ ومتدين وشرقي، يفضل النظام الأوتوقراطي المؤسس على سلطة الفرد- تعظيم وتقديس الملك وفقا للمنظور التوراتي-التلمودي- بدلًا من الديموقراطية القائمة على أساس تعددي.

تساؤلات ورهانات..

في ظل استطلاعات الراي التي تفيد بتراجع مستمر لحزب الليكود وحفاظ مستمر لقوى اليمين الديني وتعزز مستمر لأحزاب المركز وتراجع قد يصل حد الاختفاء من المشهد السياسي الإسرائيلي لليسار الإسرائيلي، فإنَّ رهانات المستقبل السياسية للأحزاب تكون بين حدي الصراع من أجل البقاء أو/ و الاندماج عبر أوسع مساحة جامعة ممكنة، وهو ما سيدفع نحو تأسيس كتل سياسية قادمة يكون فيه المركز محورًا أساسًا للأحزاب اليمينية العلمانية الرافضة لسطوة الدين والتديين، وأحزاب اليسار إذا ما أعادت ترتيب أوراقها والتوجه مجددًا عبر عقل سياسي جمعي متفهم للتحولات الجارية في مجتمع اليسار العلماني الذي بات أكثر تماهيًا مع المؤسسات الغربية الليبرالية والاتحاد الأوروبي واليسار الأمريكي، وهو ما يعني الانزياح عن الصهيونية بقيمها العلمانية الاشتراكية من جهة، والعلاقة مع الجوار الفلسطيني من جهة أخرى، حيث يتمّ التحالف بين هذه القوى على قاعدة رفض تديين المجتمع المتمثل راهنًا في معالم الانقلاب القضائي الذي تعمل على تحقيقه حكومة نتنياهو والتي باتت في ورطات متتالية صدرت بعضها عبر جرائم ارتكبتها في غزة وهي مستعدة لحرب شاملة مع المقاومة بغض النظر عن حجم الأثمان سعيًا لبقائها السياسي وتنفيذ مخططها الانقلابي السياسي- القانوني الذي يهيئ الأمور نحو أخذ المجتمع نحو مزيد من التدين وفقًا لفهم الصهيونية الدينية ومدارسها.

 

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر