خلفيات الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي: اليهودية، الدين والسياسة (1)

المجتمع الإسرائيلي


  • الأحد 19 فبراير ,2023
خلفيات الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي: اليهودية، الدين والسياسة (1)
توضيحية

العلاقة بين الدين والسياسة ومن يقود الآخر، مسألة فلسفية ناقشها على مدار قرون العديد من الفلاسفة ابتداء من فلاسفة أثينا واليونان ومرورًا بفلاسفة روما ومن بعد أوروبا، وطبعًا الفلاسفة من المسلمين العرب والأعاجم، وما زالت هذه القضية محل نقاش وجدل إلى هذه اللحظات.

لم يكن ميلاد الحركة الصهيونية العلمانية ليتم بدون اليهودية كدين وكتراث وكمرجع ولو من خلال علمنة اليهودية في مراحل مبكرة من صيرورات الحركة الصهيونية. ومعلومٌ أن عديد الأحبار اليهود الأشكناز من التيار الديني الأرثوذكسي والحاسيدي، قد كانت لهم البدايات التأسيسية في مشروع الانعتاق اليهودي ومن ثم الحركة الصهيونية خاصة بعد المذابح التي تعرض لها يهود روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر.

يذهب الفيلسوف المصري الراحل عبد الوهاب المسيري في موسوعته اليهود واليهودية والصهيونية (المجلد الخامس ج1/4) إلى أن عدة أيديولوجيات علمانية تتسم بالشمولية تغلغلت في اليهودية واستولت عليها، وأن الصهيونية هي أهم هذه الأيديولوجيات حيث قامت بعلمنتها من الداخل باعتبار تصاعد معدلات الحلولية الكمونية داخل اليهودية وفقًا لرصد المسيري لصيرورات المدارس الدينية اليهودية (الحلولية الكمونية تعني أن العالم بأسره، والإنسان والطبيعة، يردان إلى جوهر واحدٍ هو المادة، وهذه المادة تتحول إلى جوهر يحل فيها الإله بحيث لا تكون معزولة عنه أي لا وجود مستقل للإله، وهذه الحلولية نراها بوضوح في الفلسفة الدينية الصهيونية واستعمارها للمناطق الفلسطينية حيث حلَّ الإله في الشعب “اليهودي” (الانسان) والأرض (الطبيعة) فتحققت قداستهما وبذلك لا ينفصل الإله بحال من الأحوال عنهما، وفي الوقت ذاته لا يملك هذا الإله إرادة مستقلة رغم أنه إله واحد يتسم بالوحدانية، وأقرب ما يكون لهذا الفهم في المدارس الصوفية الإسلامية المدرسة الحلولية، الحلاجية كمثال). وهذه الكمونية منحت اليهود سواء من العلمانيين أو المتدينين إحساسًا بالعلو والفوقية، ففيما احتفظ العلمانيون بنمط حياة غير ديني واحتفظ المتدين بنمط حياة متدين، سعى الأخير دائمًا إلى استغلال موضوع “الله” الخاص بهم و”التوراة” اللذان شكلا تكئة للحركة الصهيونية لإعادة بناء الإنسان اليهودي. ويزعم كاتب هذه السطور أن هذا التيار الديني الأرثوذكسي والحاسيدي قد وصلا إلى هذه اللحظة، لحظة الصياغة المتجددة للإنسان اليهودي عبر سلسلة من القوانين والإجراءات، فحكومة يهودية يمينية كاملة لا تعني فقط مواجهة الآخر “الجوي”، (الفلسطينيون في هذه الحالة أصحاب الأرض والبلاد والحضارة) بل هي لحظة تهويد/تديين اليهودي العلماني، لذلك جوهر الصراع الذي نشهده هو صراع على القيم المُؤسسة للدولة اليهودية والتي ترسخت عبر العقود السبعة السالفة عبر توليفات حكومية وقانونية وإجرائية. في حين يتظاهر المتظاهرون خوفًا على ديموقراطيتهم، أي على حرياتهم والفضاءات التي تولدت من هذه القيم فإن اليمين الإسرائيلي يمضي مسرعًا لسن العديد من القوانين التي تعيد بناء العلاقات بين ثنائيات ترسخت في مسيرة وصيرورة هذه الدولة مثل العلاقة بين الأطر الثلاثة الناظمة لمسيرة الحياة اليهودية في الدولة، الإطار التشريعي والقانوني/القضائي والتنفيذي، ومعنى الحرية ومحدداتها وعمليًا تنتقل إسرائيل في ظل هذه الحكومة بغض النظر عن النتائج التي ستؤول إليها محاولاتهم، إلى جمهورانية يهودية سيكون لنا مقالات قادمة فيها والتي ستؤثر جملة وتفصيلًا على المشهد السياسي والاجتماعي والأخلاقي وستترك آثارها مباشرة على الآخر الفلسطيني والعربي. وتحديد فضاءات علاقات الدين والتدين والتديين في المجتمع مثل اللباس الساتر للنساء حين زيارتهن لحائط البُراق، وتحديد من هو يهودي من خلال القانون وعبر المرجعيات الدينية الأرثوذكسية وبموافقة الدولة، وتحديد كيفية الهجرة ومن هو اليهودي المستحق لهذه الهجرة، وكذلك الموقف من اليهودية التقدمية التي يؤمن بها ويعتنقها معظم يهود أوروبا والأمريكيتين وأستراليا كلها أمثلة عينية على صراعات المرحلة القادمة.

 

سؤال اليهودية

سؤال اليهودية وتعريفها، سؤال مختلف فيه وعليه ومحل تنظيرات فلسفية من أجلها أسس كل تيار يهودي مراكز ومؤسسات بحثية لتدعيم رأيه من خلال النصوص الواردة في التوراة وشروحاتها المختلفة ومن أقوال الكهنة والأحبار والحاخامات. ولا يزال إلى هذه اللحظات سؤال اليهودية هل هي فقط دين أم أنها دين ودولة محل نقاش داخلي، إلا أن مفرزات هذا النقاش باتت تحط بأثقالها في الحياة اليومية وتترك آثارها على الفلسطينيين ذلكم أن تطبيق المعاني، معاني اليهودية، اتخذ أشكالًا عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر، ما يقوم به أتباع التيار الديني بشقيه الصهيوني ومدارسه المختلفة، والحاردلي ومدارسه المختلفة، وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والتي تتمثل راهنًا باليمين الذي يقوده نتنياهو، إلا من بيانات هذا الفهم خاصة ما يتعلق ببناء المستوطنات وتشديد الخناق على الفلسطينيين والقتل اليومي الذي بتنا نشهده منذ عصر حكومة بينيت-لبيد.

تذهب البروفيسور حبيبا فادية (أستاذ الأدب العبري الأندلسي والحسيدوت في جامعة بن غوريون) إلى أن اليهودية تمرّ في عمليات تغيير وتشذيب على غرار ما حدث مع القوميات في أوروبا، ولكن في أطر اليهودية الداخلية واتهمت العلمانية “الصهيونية” بمحاولات جادة لفرض نمط معين من اليهودية وفقًا لمقاسهم الفكري وهذا النمط يعتبرونه الأمثَل والوحيد الذي يجب العمل بمقتضاه (راجع مؤتمر معهد إسرائيل للديموقراطية: الهوية اليهودية بين الدين والقومية والثقافة المنعقد في الأول من ديسمبر 2016). فيما يذهب الحاخام يعقوب مردان إلى أن تعزيز الهوية اليهودية يبدأ من كونهم أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ومن حقيقة الختان، وصعودهم إلى جبل موريه وزعم أن اليهودية التقدمية “الأمريكية” المتأثرة بالعلمانية وقيم الليبرالية ستدفع نحو مزيد من الاغتراب مع اليهودية كدين، وسيؤثر على معنى الهوية اليهودية (هناك أكثر من 60% من يهود الغرب متزوجون/ متزوجات من غير اليهود). ووفقًا لاستطلاع للرأي أجراه معهد بيو في عام 2018 لفحص التحولات في العلاقة مع الدين والتدين داخل المجتمع الإسرائيلي مقارنة مع المجتمع اليهودي الأمريكي، اتضح أن نسبة السكان اليهود في البلاد 81% ويشكل التيار الحاريدي 8% والديني 10% والمحافظ 23% مقابل 40% يعرفون أنفسهم أنهم علمانيون وأن 85% من الحاريديين و23% من المتدينين و65% من المحافظين يقدمون تطبيق الشريعة على القيم الديموقراطية، بل يعتقد 86% من الحاريديين و70% من المتدينين و32% من المحافظين و5% من العلمانيين بضرورة أن تكون الشريعة اليهودية هي أصل الحكم ومنه تتفرع القوانين، ويرى 97% من الحاريديين و96% من المتدينين و85% من المحافظين بتقديم تشريعات لصالح اليهود وأن تكون هي قانون الدولة على الديموقراطية واللوائح العلمانية المنبثقة عنها، ويرى 80% من اليهود أن إسرائيل قامت من أجل مصالحهم ومن ثم يجب تقديم مصالحهم على الساكنة من غير اليهود وأن يتميزوا عليهم وعنهم بقوانين خاصة (سياسات تمييزية) ويرى التيار الحاريدي والديني أن اليهودي معيار تحديد يهوديته، مرتبط بعلاقته بالدين تعبدًا وعملًا بمقتضاها وليس مجرد الانتساب. وكشف الاستطلاع أن 47% من المجتمع اليهودي لا يرى ضرورة لصلاة النساء في حائط البراق، وأن 35% من العلمانيين و48% من المحافظين و66% من المتدينين و85% من الحاريديين يرون بعدم السماح لليهوديات الصلاة في ساحة البراق.

سؤال اليهودية سيبقى الحاضر الثابت الذي منه تتناسل أوجه السياسات معنا كفلسطينيين وأصحاب الأرض والبلاد برسم تضارب العلاقات وتصادمها نصًا تشريعيًا وبُعدًا عقديًا وهو ما يضفي إلى الصراع البعد الديني الذي يسعى العلمانيون العرب وبخاصة منهم الفلسطينيون، لإخفائه لحساباتهم السياسية الضيقة فضلًا عن مواقفهم العقدية الراسخة اتجاه الدين ابتداء، وثنائيات الصراع انتهاء.


 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر