قراءة في السياقات السياسية لحكومة نتنياهو السادسة (3/4)


  • الأحد 29 يناير ,2023
قراءة في السياقات السياسية لحكومة نتنياهو السادسة (3/4)
تظاهرة ضد الحكومة الإسرائيلية

أربع إيديولوجيات شاركت في بناء إسرائيل والانتقال بها من طور ما قبل الدولة إلى دولة، متغافلين عن الدور الاستعماري الغربي لتحقيق قيام الدولة على حساب الشعب الفلسطيني، إذ كان وفقًا للرؤية الاستعمارية ضرورة أساس لإحداث النكبة ضمن معادلات دولية لتحقيق الكيان وإبقائه قائمًا على حد السيف إلى هذه اللحظة كجزء من معالجات دولية استعمارية لمنطقة ما بعد الرجل المريض. وهذه الأيديولوجيات، الاشتراكية- الكيبوتسية، والتنقيحية الجابوتنسكية (الرأسمالية الليبرالية، الدينية الصهيونية والحاريدية)، تمَّ من طرف هذه الأيديولوجيات وكلها اشكنازية تجاوز وتجاهل الحاريدية الشرقية والتي جاء أفرادها مُبكرين إلى فلسطين، بل إنَّ أعدادًا منهم جاءت مشيًا على الأقدام باسم الحج إبّان الدولة العثمانية، استجابة لنداءات الحركة الصهيونية كما حدث مع يهود اليمن الذين سكنوا القدس أواخر الدولة العثمانية بتحريض من الحركة الصهيونية، حيث يسّرت الدولة العثمانية لهم ذلك على أساس مواطنتهم في الدولة العثمانية. وهذا التجاهل المتعمد من طرف هذه الكيانات الأربعة لم يكن ليمرّ مرور الكرام في الأدبيات اليهودية الشرقية التي لحظة قدومها فضَّلت البقاء تحت لافتات ورعاية الحاخامات الذين تولوا أمرهم كمرجعيات كان لهم الدور في حثهم على “الصعود” لفلسطين لتثبيت وجودهم بعدئذ تركوا أموالهم وأرزاقهم للحظة الاندماج في بناء مشروع “الدولة القادمة – همدينا بديرخ-” ولكنْ تمَّ إبعادهم عن عمد بسبب شرقيتهم ولأنهم من بلاد العرب والمسلمين. وما تعرضت له الجالية اليمنية في القدس وفي “حوض يافا- أم أحمد، تل أبيب- نتانيا” ووثَّقه حاخاماتهم في تلكم المرحلة، يبيِّن الأبعاد العنصرية الثاوية في ممثلي المدارس التي ذكرت. وكانت ثالثة الأثافي في بناء المخيمات بعد قيام الكيان والتي سميت تاريخيًا بالمعبروت لتبقي جروحًا غائرة في النفسية اليهودية الشرقية، والتي راكمت غضبًا على الواقع الذي فُرِضَ عليهم، انفجر أكثر من مرة متجليًا في لحظة تاريخية (1971) من جدل العلاقة الاجتماعي- المجتمعي- السياسي في حركة الفهود السود (هبنتاريم هشحوريم) التي خرجت من حي “المصرارة” في مدينة القدس.

المظلومية الشرقية وإسرائيل الثانية البُعد الاجتماعي..

هذه المظلومية، وفقًا لعديد الباحثين الإسرائيليين (انظر مثلًا كتاب إسرائيل الثانية للصحفي د. ابشاي بن حاييم الصادر في عام 2022) التي أوقعها حزب “المباي” و “الاشتراكية الكيبوتسية” على الشرقيين و”السفارديم” حملت نتوءات داخل هذا المجتمع دفعت مناحيم بيغن للتنبه لها واستغلالها، وهو المحسوب على النخبة الاشكنازية المؤسسة لإسرائيل الأولى، إسرائيل الصهيونية. لذلك، يرى العديد من الباحثين والمفكرين الإسرائيليين أن مناحيم بيغن هو مؤسس إسرائيل الثانية ويعتبرون خطابه التاريخي المشهور بخطاب العامة “نئوم هشتختشاخيم” مصطلح يقصد به اليهود من الشرقيين، وقد أطلقه الفنان الإسرائيلي “دودو طوباز” عام 1981 قاصدًا به اليهود الشرقيين وردَّ عليه مناحيم بيغن بخطابه الشهير “خطاب هتشخشخيم”، وكان سببًا في فوز الليكود)، خطابًا مؤسسًا للهوية “الما بعد مبامية” المستندة على اليهودية كقومية ودين وتراث، متجاوزة البعد العلماني الغائي الذي تأسست عليه إسرائيل كمنتج للحركة الصهيونية العلمانية العمالية، والتي سعت لتحقيق الهوية الإسرائيلية عبر بوتقة الصهر والعسكرة، ولتحديد أكثر لهذا المعنى، معنى اليهودية، كان بيغن من ابتدع فكرة زيارة حائط البُراق بعد الفوز بالانتخابات، لتتحول إلى سنَّة جارية في فعل السياسة والعلاقة مع الدين، وهو ما قرَّب الليكود اكثر من الشرقيين وحدّد معنى جديدًا للهوية يقوم على اليهودية وليس الإسرائيلية، وبذلك تحددت عمليًا داخل المجتمع الإسرائيلي هويتان، اليهودية ويتبناها ويعمل على تجذيرها وتعميقها اليمين الديني والمحافظ بمختلف تلويناته، والإسرائيلية ويتبناها اليسار والتيار العلماني، وهي التي تصادمت راهنًا مع هذه الحكومة وأخضعت نتنياهو للمرة الأولى للامتحان المُباشر ليس في جدل بيزنطي بين الدين والسياسة، بل واقعيات عملية كما في عديد القوانين التي تتقدم بها القوائم الدينية الائتلافية.

تاريخيًا، كان لليهودية كدين الدور الكبير في الحفاظ على اليهود في “الجيتوات” سواء كانوا متدينين أو غير ذلك، حيث اعتبر الانفصال عن الديانة اليهودية انفصالًا عن شعب “إسرائيل-شعب الله المختار”، وبقيت هذه المسألة واضحة في المجتمعات اليهودية عمومًا والمجتمعات اليهودية القادمة من العالمين العربي والإسلامي، حيث تأثرت من محيطها المشرقي العربي والإسلامي وحافظت على منظوماتها الأخلاقية والقيمية إلى لحظة تعرضها لعمليات التخلية والتحلية في “المعبروت” والجيش. تشير كافة الدراسات إلى علاقات وطيدة بين الفقر والمستوى الاجتماعي والتعليمي، وللشرقيين في السياق الإسرائيلي، حصة الأسد في هذه المعادلة، ومرد ذلك، إلى سياسات بن غوريون التي تعمدت دونية اليهود الشرقيين من جهة، والاستمرار بهذه السياسات رغم الاعتذارات الكثيرة والكبيرة التي تقدم بها السياسيون كان آخرها الاعتذار التاريخي الذي قدَّمه إيهود باراك للشرقيين على ما فعله حزبه، حزب العمل بهم. لكن التصريحات شيء والاستمرار في نفس السياسات شيء آخر، ولذلك كانت هذه المجموعة أكثر قربًا لليكود رغم اشكنازيته برسم وقوفه إلى جانب مظلومياتهم، ومن ثمَّ فقد اعتبر خطاب مناحيم بيغن المشهور بخطاب “هتشاخشخيم” وفيه ركزَّ على أن اليهود، كل اليهود، إخوة وأنزل جام غضبه على أولئك الشرقيين المنبطحين في بلاط الاشكنازية العمالية، تأسيسًا لإسرائيل الثانية ذلكم أنّ إسرائيل التي قدَّمها مناحيم بيغن كانت إسرائيل ذات البعد الهوياتي اليهودي، وليس الإسرائيلي، أي أنها تقدم هويتها الدينية اليهودية على علمانيتها الاشكنازية، إسرائيل التي تنصف الشرقيين وتتقدم بهم إلى المحافل السياسية. بيدَ أن هذه الأسرائيل، لم تعمل على تسليمهم القيادة وهذا ما حدث مع دافيد ليفي الرجل الثاني في الليكود، الذي لم يُسمح له أن يكون يومًا فيه الرجل الأول، فجيء بنتنياهو ليقود الليكود مستقبلًا أيام شامير الاشكنازي بدلًا من ليفي. ويبقى سؤال المظلومية مطروحًا بشكل أو بآخر، علمًا أنَّ جميع من في المعبد اليوم يتنافسون فيما بينهم لسنّ قوانين تكبل الواقع الفلسطيني عمومًا ومنه الداخل الفلسطيني، بسبب أنَّ العمل في هذه الحلبة والالتهاء بها سيدفع دائمًا نحو عدم التقدم خطوات تتعلق بالصدام الحتمي بين إسرائيل الثانية وفقًا لبعض التعريفات وإسرائيل الأولى التي يتظاهر مناصروها مؤقتًا في ساحات المدن الكبرى بعدئذ تمّ مس بعض المقدسات التي بنتها، ليبقى السؤال مفتوحًا حول نتنياهو الشخصية الغائية وسُبل تعامله مع تناقضات هذه الحالة وهو المحسوب على إسرائيل الأولى سواء تبرأ منها أم لا.

سؤال الهوية وفشل عمليات الصهر

سؤال الدين والدولة في السياق الإسرائيلي مرتبط بثلاثة عوامل تأسست عليها إسرائيل ككيان متعلق بالغرب قيمةً وأخلاقًا ومنفعةً متبادلة في السياق الاستعماري للمنظومة الغربية التي استعمرت المشرق العربي. العامل التاريخي والعامل التكويني للشرقيين المعروف بمحاولات صهرهم ضمن الهوية الجديدة للاشكنازي المتعالي، والمظلومية التاريخية التي أسقطتها الحكومات المتعاقبة على الشرقيين، بسبب هويتهم الدينية وعرقهم وأماكن قدومهم وثقافتهم التي عمليًا حافظت على اليهودية. العامل التاريخي الخاص بالجماعات اليهودية في “الدياسبورا” كان الناظم والحاكم للعلاقات البينية داخل الجماعات اليهودية التي وفدت إلى فلسطين واستعمرتها، سواء قبل النكبة أو بعدها، وهذه الجماعات بقيت محافظة على منظوماتها “الجيتيوية” إلى هذه اللحظات، ولعب الحزب الحاكم في السنوات الأولى لما بعد قيام الدولة دورًا ناظمًا بل وراعيًا لهذه الصيرورة، علمًا أنه سارع إلى استعمال الجيش عبر الخدمة الإلزامية كأداة مباشرة وناظمة ومتجبرة لخلق الإنسان الإسرائيلي “الجديد” المتخلي عن هويته الطائفية والجيتوية والمنصهر ضمن الواقع الجديد- إسرائيل- وسميت هذه العملية بفرن الصهر “كوور ههيتوخ”، وقد بان فشلها وبشكل فضائحي منذ أن تولى الليكود السلطة، وتعاظم هذا الفشل مع التحولات التي بدأ بها الجنرال دان شومرون ومن بعده إيهود باراك، وتوافقت مع ثورتي “الجينيوم” والمعلوماتية وشكل تأسيس حركة شاس مطلع الثمانينيات تأطيرًا سياسيًا ودينيًا مجليًا الصراع اليهودي الشرقي مع النخبة الاشكنازية المتعلمنة والمؤسسة الحاكمة، وتعميقًا لدور الدين كحالة ناهضة بالمجتمع اليهودي الشرقي، متجاوزة الكنيس كحيز مُعاش لصالح التدافع مع المجتمع، وهو ما جعلها تكتسب باستمرار زخمًا متجددًا. وتعتبر إقالة درعي جزءًا من التدافع القائم مع النخبة العلمانية المستأسدة، وكان العامل التكويني لليهود الشرقيين حيث تمَّ استيعابهم في البيوت المؤقتة، المخيمات، التي سميت بالمعبروت، لليهود القادمين من العالم العربي. وعاش كثير منهم حيوات جيدة ومستويات من المعيشة عالية، خاصة أولئك الذين تم استجلابهم من العراق وقد قاسوا وعانوا أشدَّ المعاناة في “المعبروت” لتترك بصماتها عليهم اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وقد عانت هذه المجموعات نفسيًا وإلى هذه اللحظات، لتترجم راهنًا عبر صناديق الاقتراع.






 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر