بن غفير اقتحام الأقصى والكسب السياسي

بن غفير


  • الأحد 8 يناير ,2023
بن غفير اقتحام الأقصى والكسب السياسي
بن غفير

انتُخب بن غفير كما هو واضح للمتابع للشأن السياسي الإسرائيلي من مختلف القطاعات والشرائح والأيديولوجيات الإسرائيلية على أساس من برنامجه الذي عمل عليه عدد سنين، وروَّج له في المجمعات والمجتمعات الإسرائيلية القائم على أساس من قلق الجمهور الإسرائيلي على أمنه الشخصي والفوضى العارمة التي تلطمهم في الجليل والنقب أملًا منه أن يغير من هذه الوضعية، لذلك كثرت البنود ذات الصّلة بهذه المواضيع في الاتفاق الائتلافي مع الليكود، ومن قرأ الاتفاقية بين الطرفين يدرك سريعًا أنَّ بن غفير متنبه لهذه الحيثية ويعمل على التعاطي معها لتحقيق أرضية سياسية صلبة لسنوات قادمة، وبالتالي فهو بحاجة دائمًا إلى أداة تجعله في صدارة المشهد السياسي الإسرائيلي السريع التقلب والمتغيرات مع إدراكه التام استحالة تطبيق كل ما يريد تحقيقه بما يتعلق بوعوده خلال هذه الدورة إن استمرت، وعليه فثمَّة حاجة للتذكير بوجوده الإعلامي وأنه السيد، خاصة بعد أن أضحى وزيرًا للأمن القومي ويملك صلاحيات واسعة، ليس فقط للحكومة المتشكلة، بل ولعموم التيار الديني الصهيوني والقومي الذي يتطلع لقيادته مستقبلًا.

وما يشير إلى ذلك ما كتبه “افراييم بن غانون” في معاريف الأربعاء المُنصرم، من أنَّ نتنياهو جلس مع بن غفير لثنيه عن هذه الخطوة وتأجيلها بعدئذ ناشدته دول التطبيع العربي بمنع بن غفير من هذه الخطوة، إلا أنَّه رفض ذلك التوجيه ليصدر بعد ذلك بيانًا من مكتب رئيس الحكومة داعمًا للاقتحام بزعم أنه ليس الوزير الأول الذي يقتحم المسجد الأقصى المبارك، وكان جلعاد أردان قد اقتحم المسجد يوم كان وزيرًا للأمن الداخلي ، وحاول مكتب نتنياهو تبرير الاقتحام وتطمين العرب المُطبعة، أنه كرئيس للحكومة ملتزم بالحفاظ على الوضع القائم وأنه في الوقت ذاته لن يخضع لإملاءات حماس.

 

تعزيز المكانة السياسية..

الملفت للنظر أنَّ صحيفة “يتيد نئمان” التابعة للتيار الديني الليتائي المنسوب لـ “ديجل هتوراة” المشارك في الائتلاف الحكومي، شنَّت حملة شديد اللهجة على بن غفير في تقرير موسع لها الجمعة الفائتة، واستكتبت عددًا من الحاخامات الذين رأوا فيه خطرًا يهدد الأمن اليهودي، وطالبوا بقطع علاقات الشباب الحاريدي معه لأنه كما وُصف غير مسؤول ومستفز، فيما أفردت افتتاحيتها الأربعاء الفائت، لاقتحامه، معتبرة ما قام به نوع من الاستهتار بالدم اليهودي من جهة واللعب ليد حماس والحركة الإسلامية من جهة أخرى، فضلًا عن ضربه عرض الحائط لفتاوى كبار فقهاء التوراة بما في ذلك الحاخامات الذي ينتمي إليهم، اللهم إلا “الحاخام مزوز” الذي بارك هذه الخطوة واعتبرها تعبر عن 99 % من المجتمع الإسرائيلي بما في ذلك من صوَّت لليسار.

بن غفير يصعد ببطء شديد ولكن بإصرار سُلم السيطرة على الساحة السياسية في التيار الديني الصهيوني، وإطلالة على بنود الاتفاق الموقع مع الليكود تشي بذلك، ولذلك لن يتنازل بن غفير راهنًا ولا مستقبلًا عن أي هدفٍ سيقربه من السيطرة على هذا التيار الذي اختلطت فيه أوراق الصهيونية الدينية بالقومية اليهودية والحاريدية المتصهينة والقومية اليهودية المُحافظة، فقد أضحى هذ الرجل شعارًا في بيانات الهوية ومعالمها والاعتزاز بها لدى قطاعات واسعة من الشباب اليهودي بغض النظر عن هويتهم الأيديولوجية، وبات موضوع المسجد الأقصى من المعالم الأكثر إثارة وأهمية في تحقيق الهوية والوعي بالذات اليهودية المتجددة في دورتها الثالثة، بعد إذ انتهت الدورة الصهيونية العلمانية لصالح الصهيونية التصحيحية التي تتعاقد راهنًا مع القومية اليهودية بما في ذلك الحاريدية التقليدية لتحقيق أهداف موضوعية تعبر عن الحلقة الثالثة كذلك في الصيرورة الحضارية لإسرائيل.

مدة اقتحام بن غفير في اليوم الأول عمليًا لتواجده في وزارة الأمن القومي 13 دقيقة تبعها لغط عالمي وعربي وإسلامي، وسبقها تهديد ووعيد من فصائل فلسطينية وفي مقدمتها المقاومة الإسلامية حماس، ثمَّ بعد الاقتحام صدرت تصريحات من قائد حزب الله تُحذِّرُ وتستنكر، وكل ما ورد عربيًا وعالميًا وفلسطينيًا لا يتجاوز سقف التصريحات.

عند قراءاتنا في الاتفاقية الائتلافية المبرمة بين حزب “عوتسماه يهوديت” الذي يقوده بن غفير وحزب الليكود حيث وصل عدد بنود الاتفاق الائتلافي وملحقاته الثلاثة الى 269 بندًا بما في ذلك الملحقات. لم ترد كلمة “هار هبايت” الأقصى مطلقًا، فيما وردت تصريحات واضحة تتعلق بمدينة القدس والمناطق المحتلة عام 1967 وتهويدها وتعزيز الوجود اليهودي كما الجليل والنقب، فضلًا عن تعزيز الميراث الصهيوني واليهودي في السياق المجتمعي الإسرائيلي العام، والتأكيد على تعلم التوراة والأصول الدينية اليهودية والقيم الصهيونية كقيم تأسيسية في المدارس الإسرائيلية وجعلها من المواد الإلزامية في التعليم الرسمي.

عمليًا، بن غفير ابن المدرسة القومية اليهودية وينظر إلى الأرض على أنها ملك خالصٌ لليهود، ومن ثم فكل من عليها من غيرهم سيكون الموقف منه تبعًا لمعاني الولاء والطاعة التي يقدمها للسيد صاحب البلاد الذي تحصل عليها برسم إلهي وارد في التوراة كما يعتقدون وينظِّرون. ومن ضمن هذه المسلمات التي يعتقدها والملايين من أمثاله ممن ليسوا بالضرورة من أتباعه الفكريين والتنظيميين أو المحزبين مسألة المسجد الأقصى المبارك، حيث ترى هذه الجموع بما يقوم به ابن غفير ومن معه تعبيرًا روحيًا وعمليًا عما يختلج في صدورهم، وبالتالي فنحن لسنا أمام ظاهرة فردانية في المجتمع الإسرائيلي، بل نحن أمام نسق استوى على عوده يعبر عنه راهنًا وبقوة شخصية لها تاريخها المُشكَل السياسي والتنظيمي المعادي للفلسطينيين وللمسلمين، وربطته لحظات تاريخية كثيرة من مسيرته مع الأمن الإسرائيلي، مما يثير العديد من الشبهات والشكوك في بيانات العلاقة بينه وبين هذا الجهاز بشقه المسؤول عن ما يسمى دائرة المتطرفين اليهود.

هذه الشخصية التي اقتحمت المسجد الأقصى المبارك لطالما اقتحمته تحت حماية “شاباكية” وشرطية خاصة، والأمر لم يختلف كثيرًا بعد أن أضحى وزيرًا أللهم إلا المنصب والترتيبات المتعلقة بالمنصب من حيث الحساسية المتعلقة بالموضوع على المستويين السياسي والأمني من حيث العلاقات مع العالم العربي ودول التطبيع العربية والإسلامية والعلاقات مع المنظومة الدولية التي حضنت أوسلو ولا تزال تتحدث عن حل الدولتين، وهي تعلم علم اليقين فشله واستحالة تطبيقه إلا بظروف خاصة جدًا، إلى جانب العلاقة مع الكل الفلسطيني بأبعاده السياسية والأمنية والدينية.

اقتحام ابن غفير للمسجد الأقصى والذي استمر ثلاثة عشرة دقيقة وسبق جلسة الحكومة بساعتين، جاء ضمن حساباته الشخصية والسياسية والمحافظة على زخم وجوده الإعلامي المحلي والعالمي من جهة، وتأكيدًا على الاستمرار بنهجه المتعلق بالعلاقة مع المسجد الأقصى، وقد ترك بن غفير لأعضاء الكنيست من قائمته الساحات الإعلامية في الإعلام الإسرائيلي لتبرير ذلكم الاقتحام، مستغلًا الموضوع للحديث مُباشرة عبر هذه الفضاءات التي توفرت له لتبيان مواقفه من المسجد الأقصى وضرورة تقسيمه بالتساوي زمانًا ومكانًا وأداء الصلوات، ضاربًا بعرض الحائط ما يسمى الوضع الثابت “الستاتوس كفوو”، الذي ضرب به نتنياهو منذ عام 1996 عرض الحائط حين كان بن غفير لا يزال في عمر الثامنة عشرة عامًا، هذا مع الإشارة إلى أن بن غفير قد التزم وفقًا للاتفاق الائتلافي الموقع بينهم فيما سمي بالخطوط الأساسية التي تعمل وفقًا لها الحكومة المتشكلة على الحفاظ على الأمر القائم، حيث نصَّ الاتفاق المُلزم للطرفين على: “يتم الحفاظ على الوضع القائم-الستاتوس كفوو- في مسائل الدين والدولة كما هو قائم منذ عشرات السنين بما في ذلك ما يتعلق بالأماكن المُقدسة”، ولكن الأبعاد السياسية ذات العلاقة ببن غفير تحديدًا وبشكل آخر بنتنياهو، دفعت الأخير لعدم الاعتراض على اقتحامه للمسجد الأقصى المُبارك دون أن يلتفت الأخير إلى ردود أفعال العرب والأوروبيين والأمريكيين، منابزًا المقاومة الإسلامية في تصريحاته، موضحًا أنه، أي بن غفير وخلفه الحكومة الجديدة لن تخضع لإملاءات الفلسطينيين والمسلمين.

 

الفحص المُبكِرْ..

ثمَّة من يزعم أنَّ نتنياهو هو الحلقة الأضعف في هذه الحكومة بعد إذ تمَّ سنّ قوانين سابقة لتشكيل الحكومة، وبعد أن سيطر التيار الديني على مفاصل الشأن الداخلي إسرائيليًا وإعادة صياغة العلاقات مع عديد القضايا وفي مقدمتها العلاقة مع الضفة الغربية والقدس وبالطبع المسجد الأقصى الحاضر الغائب دائمًا في جدل السياسات الإسرائيلية الداخلية، ومن ثمَّ فما قام به بن غفير يظهر للوهلة الأولى وكأن العبد قام على سيده ورفض توجيهاته، فيما يؤكد الفهم الدقيق لعقلية نتنياهو السياسية والأيديولوجية أن هذا “العبد” إنما يخدم السيد وأنهما أمام لحظات تقاطع مصالح سياسية وأيديولوجية ومن ذلك العمل على تأكيد السيادة مبكرًا من طرف هذه الحكومة الممثلة لليمين الإسرائيلي على اختلاف مشاربه، حيث تكون السياسات الداخلية موجهة للإسرائيليين وسمتها العمل وفرض الوقائع، فيما الخطاب والدبلوماسية والقول المعسول للخارج مع تربص للفلسطينيين ومواقفهم والرد عليها.

لا تكمن خطورة الاقتحام بأنه اقتحم المسجد لدقائق معدودات وفي ساعات مبكرة ولا في تصريحاته التي كانت قبل وبعد الاقتحام وبيانه أن له الحق في اقتحام المسجد، بل تكمن في المواقف العربية والإسلامية والفلسطينية بالدرجة الأولى اتجاه موقف يعتبر فحصًا جادًا ولو مبكرًا لصيرورات العلاقة مع الأطراف الثلاثة المذكورة أي الفلسطينية والعربية والإسلامية، وهذا الفحص المُبكٍِر، فضلًا عن أنه يفحص ردود الأفعال، كذلك الأمر هو أداة من أدوات نتنياهو في كيفية تصريف السياسات المتعلقة بمواضيع حساسة جدًا كموضوع المسجد الأقصى، وهو من جرَّب على جلده هذا الأمر ودفع ثمنًا له إبعاده عن دفة الحكم عدد شهور.

في السياقات الإسرائيلية وجدل العلاقة مع المسجد الأقصى ثمة ثلاثة محددات تبين لنا محايثات العلاقة مع المسجد الأقصى، المحدد الداخلي الإسرائيلي، والصراعات المستترة في الموضوع لتَسيد المشهد السياسي المحلي، والمحدد الفلسطيني بقواه المختلفة بما في ذلك الداخل الفلسطيني، وأخيرًا المحدد العربي والإسلامي ومدى تأثيراته على الاختراقات الجارية في منطقتنا سياسيًا وامنيًا.


 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر