شخصيتا العام.. بعد أربعين عامًا


  • الجمعة 2 ديسمبر ,2022
شخصيتا العام.. بعد أربعين عامًا
كريم وماهر يونس

ستأتي البشائر مع بداية العام الجديد، وهي بشائر بذاتها بل سيحملها الاثنان ويأتيان بها. في السادس من كانون ثانٍ 2023 سوف ينهي الأسير كريم يونس محكوميته وفي الثامن عشر منه سوف ينهي الأسير ماهر يونس محكوميته، كلٌّ منهما يكون قد أمضى أربعين عاما في سجون الاحتلال. قبل أربعة عقود أصدرت المحكمة العسكرية الاسرائيلية بحق كليهما حكما بالإعدام وكذلك بحق المرحوم سامي يونس الذي تحرّر في صفقة وفاء الأحرار (شاليط) وهو في جيل الثانية والثمانين وتوفي بعد سنتين. صحيح القول "لا غرفة التحقيق باقية ولا زرد السلاسل" لكن عمرها طال وطال وطال، ولم يتذمّر لا ماهر ولا كريم. مرّت السنين وتجاوزتهما الصفقات من صفقة جبريل 1985 وحتى وفاء الأحرار وحتى اليوم. كما تجاوزتهما وتجاوزت كل "أسرى ما قبل اتفاقات أوسلو" من فلسطينيي 48 اتفاقات أوسلو وما نتج عنها من الافراج عن آلاف الأسرى والأسيرات الفلسطينيين والعرب. وفي العام 2014 تم الاتفاق بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل وبرعاية أمريكية لا ترعى إلا مصالح إسرائيل، على اربع دفعات لإطلاق سراح 112 أسيرا من قدامى الأسرى، فأُزيح أسرى ال48 إلى الدفعة الاخيرة في نيسان من ذاك العام كي لا يتم تنفيذها إسرائيليا.

في الحقيقة لم يكن ذلك نتاج موقف المفاوض الفلسطيني وإنما نتاج صلف الإسرائيلي، الذي يقرر أن "يحترم" الهوية والجنسية، فقط حين يريد أن يعاقب الفلسطيني المواطن باعتباره "خان" "دولته" وخان "الولاء"، وفي لغة القضاء المستعمر يقولون "خان الأمانة" تجاه "دولته" وخدش "نسيج العلاقات بين العرب واليهود" وأحيانا تترفّع أخلاقيات القضاة فيذكرون الفلسطيني بأنه "مسّ بالتعايش". هكذا باتت الهوية الناتجة عن الجنسية الإسرائيلية بمثابة حاجز أمام الحقوق وحاجز أمام الفرج من السجون.

حالة كريم وماهر هي حالة فلسطين ومنها، وحال استعصاء مشروع الحرية والتحرر الوطني، فهكذا يدخل الأسير شابا يانعا ويخرج في سنوات الستين المتقدمة. لا يفكر الأسير بأنه ذو فضلٍ على أحد بكونه قام بما قام به، بل انتماءً والتزاما واستعدادا. وفي المجمل لا يفكر الأسير في أنه سيحرر نفسه، فهذه مهمة الشعب وحركة التحرر الوطني. كما لا يفكر الشهيد قبل استشهاده بأنه يحمل روحه على راحته من أجل أحد، بل من أجل الذات الجماعية شعبا ووطنا، وإذ سنحت وسائل التواصل الاجتماعي للبعض منهم أن يسجلوا رسالة أخيرة باقية، فكان مضمونها ديروا بالكم على حالكم وعلى الوطن وعلى كرامة الشعب وعلى الأم. والشبَه كبير.

سيخرج كريم ويبدأ مشواره الحر بغصّة كبيرة وحسرة أكبر وفيها دمعة عزيزة حين يبدأ مشواره بزيارة ضريحي والديه، وضريح أمه مؤلم بشكل خاص لأنها صمدت في انتظاره حتى الخطوة الأخيرة من سباق مسافات العذاب الطويلة، فأسلمت الروح بضعة أشهر قبل اللقاء فكان الوداع من دون وداع وبات هذا اللقاء مع ذكريات وحنين ووفاء.

سيلتقي ماهر أمه التي تنتظره منذ أربعة عقود وهي تستأنس بصورِه في كل أنحاء بيتها وقد جرى تكبير بعضها لتكون على مقاس صاحبها علَّ في ذلك يكبر الحضور. وكم تردد أنها تريد أن تحتضنه وأن تراه عريسا.

قصتهما قصة الأسرى الذين لا يريدون الألقاب الآتية من مفاخر الإخفاق ولا أن يكونوا عمالقة الصبر ولا الأسطورة بل الإنسان وحياة خارج الجدران. إلا أنهما سيتركان خلف جدران القهر مَن عاشوا معهم أكثر مما عاش كل منهما مع عائلته، سيترك كل واحد جزءا من قلبه وذهنه ووجدانه، سيفرح الباقون بهما ففي الفرج عن أي أسير راحة لمن يبقى في السجن وفيها ولو لمحة أمل مهما كان بعيدا. قد يشعر البعض من ذوي الأحكام المؤبدة بغصّةٍ ما أن يتذكروا حالهم، إلا أنهم يغطّون الغصة بملامح بسمة، لكن الأسير الخارج إلى الحرية يشعر بالأسى تجاه الباقين في مساحات القهر المغلق.

لا بدّ من أن تكون المفاجأة، فالعالم تغيّر وتغيّر وتغيّر، وتغيّر البلد وتغيّر الاهل، وحتى ذاكرة المكان ستجد الصعوبة في المرور في متاهات الجغرافية ومتاهات العلاقات الإنسانية التي انقلبت رأسا على عقب عدة مرات خلال عقود الأسر. "لن ينتظرهم شادي الصغير وهو يلعب على الثلج" كما توحي أغنية فيروز، فالثلج إجا وراح أربعين مرة أي ضعف خيال الأغنية الحزينة.

لم يركب أيّ منهما موجة الوهم يوما، لأنها عادة ما تدفع الأسير نحو كاسر الأمل. كما لم يكن أي منهما يوما ممن يعتمدون "العدّاد"، وهو عدّاد السنين الذي يجعل ذكرى الاعتقال كما لو كانت عيد ميلاد، لا تذكّر الأسير إلا بالأسر. لم ينتظر ماهر ولا كريم ألقاب التفوق من إعداد بؤس الحال الفلسطيني والعربي الذي بات حائرا أمام استعصاء التحرير.

المجتمع الفلسطيني هو الحاضنة للأسرى، لكن المجتمع الحاضن لا يكفي وأحيانا يكون الحاضن خانقا دون أن يقصد ذلك، إذا لم يفهم لغة الحركة الأسيرة، وما معنى أن يكون الإنسان أربعين عاما بين جدران وسلاسل وقهر. مهما كان لا لوم على المجتمع بل كل التحية والتقدير لهذا المجتمع الذي لم ينسَ أسراه وأسيراته ويتقاسم الألم والمعاناة وتتسع مساحات قلوب الناس كي تحمل الوفاء للأسرى.

الإنسان قادر على التأقلم، ومن نجح في التأقلم أربعين عاما في السجن فهذا ليس بالأمر المفرغ منه، بل يجاري المستحيل. فمن اجتاز هذا الامتحان القسري من شأنه أن يتدارك حدود الحياة خارج السجن في بيته ومكانه. أتساءل في نفسي إلامَ سينظر كريم في السادس من كانون الثاني حين يخرج من بوابة السجن ويتكرر السؤال مع ماهر في الثامن عشر منه. وماذا سيفعل كل منهما في الأيام الأولى من الفرج بعد صخب الاستقبال. فالاستقبال هو إرادة شعب وواجب شعب ومسؤولية شعب، لكنه أولا مشاعر شعب بأكمله.

قليلة هي الشخصيات التي تحرك قلوب الشعب، ولا بد من أن كريم وماهر قادرين على ذلك، فقصتهما من روح الشعب ومن قصته.

طال الانتظار وجاء الفرج بطيئا، لكنه جاء وهذا يأخذنا الى شاعر السودان محمد مفتاح الفيتوري:

أصبح الصبح

ولا السجن ولا السجان باق

وإذا الفجر جناحان يرفان عليك

وإذا الحزن الذي كحل تلك المآقي

والذي شد وثاقا لوثاق

والذي بعثرنا في كل واد

فرحة نابعة من كل قلب يابلادي

أصبح الصبح

وها نحن مع النور التقينا

التقى جيل البطولات

بجيل التضحيات

التقى كل شهيد

قهر الظلم ومات

بشهيد لم يزل يبذر في الأرض

بذور الذكريات

أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا

بالذي أصبح شمسا في يدينا

وغناء عاطرا تعدو به الريح

فتختال الهوينى

من كل قلب يا بلادي

فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي

فرحة يتحقق بعض منها في الشهر الأول من العام 2023 وكل عام وللحرية أقرب وكل عام وللفرحة أقرب.

 

 

 

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر