مسدّس أيالا هو المشهد المتجدد للصهيونية


  • الأحد 27 نوفمبر ,2022
مسدّس أيالا هو المشهد المتجدد للصهيونية
مستوطنات

استحوذت مؤخراً على وسائل التواصل الاجتماعي صور النساء المتدينات المستوطِنات وهنّ يتدربن على إطلاق النار من مسدساتهن. كما وسبق ذلك صورة زوجة رئيس حزب عوتسما يهوديت أيالا بن غفير وهي تحزم مسدسها على خاصرتها، حين كانت في حضرة سارة نتنياهو التي استضافت زوجات قادة الأحزاب المرشحة للائتلاف الحاكم. وهناك من بين الإعلاميين الإسرائيليين من رأى بسلوك زوجة بن غفير بأنها تريد أن تقول بأنها صاحبة البيت في الحكم الاسرائيلي، حتى وإن رأت زوجة رئيس الوزراء القادم نتنياهو نفسَها بأنها السيدة الأولى  في البيت. وكان ايتمار بن غفير المرشح لوزارة الأمن الداخلي المسؤولة عن الشرطة والسجون قد أشهر مسدسه في عدة مناسبات في الاعوام الاخيرة مهددًا الفلسطينيين ومستهترًا بقوات الأمن الإسرائيلية. وإن كانت دانييلا فايس هي الأكثر بروزًا في تاريخ حركة الاستيطان الصهيوني-ديني وغوش ايمونيم وبالذات في سنوات الثمانين والتسعين، فإننا اليوم بصدد جيل جديد لا يسعى بمفاهيمه إلى حركة استيطان بل الى دولة استيطان سافر.

كما هو معروف فإن جمهور المستوطنين وبالذات في مدينة الخليل هم الأكثر رعايةً من قبل جيش الاحتلال ودولته ومن منظومات الامن المختلفة، وهم فعليًا محميّون أكثر بالذات حين يقومون باقتحاماتهم واعتداءاتهم على الفلسطينيين، هم والتنظيم الإرهابي نوعر هغفاعوت ("شبان التلال"). كان الاستيطان تاريخيًا ملازمًا لبناء القدرة العسكرية والأمن القومي وترسيم حدود سيطرة المشروع الصهيوني وجزءًا لا يتجزأ من هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي. لكن بخلاف اليوم فإن القوى التي بنت المشروع الصهيوني في فلسطين هي حركة العمل العبرية وتيار العمل، والذي بات اليوم على هامش السياسة الاسرائيلية فباتت حركة ميرتس (وبالذات مركّبها حزب المبام العمالي في طي التلاشي، وبات حزب العمل في طور الاضمحلال، وعلى هامش الصهيونية الدينية وحزب عوتسما يهوديت.

تكرار تظاهرة التدرب على حمل السلاح وإطلاق النار من قبل نساء بالغات في العمر وبعيدات كثيرًا عن جيل الجندية ، وأساساً لم يخدمن في الجيش من منطلقات دينية، هو أبعد من المسألة الشكلية إذ أن في الرمزية مقولة هامة، وهي تعود من ناحية إلى التاريخ اليهودي التلمودي وإلى مشاركة النساء في الهمّ العام اليهودي بما فيه القتال، وهو مصاغ في "سِفر العدد" (بمدبار) ضمن التوراة، وهذا ما يشغل الشقّ الديني من عقيدة هذا التيار. في المقابل يجمَع هذا المشهد رموزًا من المشروع الصهيوني الحديث في فلسطين منذ قرن ونصف القرن. ويتعلّق الأمر بشخصية الطلائع اليهودية بالمفهوم الصهيوني. منذ نشوء الحركة الصهيونية فقد انشغلت ولا تزال الأدبيات وكل منظومات التنشئة الاجتماعية المنبثقة عنها  في بناء اليهودي الجديد ويشمل الرجال والنساء. وضمن ذلك انشغلت في بناء الشخصية اليهودية الطلائعية وبالعبرية حالوتس/ حالوتسيوت، وذلك لتكون على النقيض من شخصية اليهودي الضحية والضعيف والمهان في مراكز الاعتقال والابادة النازية، أو اليهودي المطارد في كل العالم وأينما وطئت قدماه فقط لكونه يهوديا حسب الرواية الصهيونية.

يرى تيار الصهيونية الدينية بأنه يحمل مشروع الصهيونية المتجدد في هذه الحقبة، ويحمل مشروع أقرب إلى الخلاص معًا. كما أن مشهد النساء المتدينات المستوطنات هو من صور هذا التيار ونفوذه واستحواذه على مساحات واسعة احتلها من التيار العلماني الصهيوني القائم على تجند الفتيات للجيش والانشغال في ترقيتهن في كل الوحدات القتالية وسلاح الطيران والمدرعات ووحدات النخبة وفي الموساد والشاباك. بينما يرفض تيار الصهيونية الدينية أن تتجند النساء التابعة له في الجيش وإجمالًا يتجندنَ في إطار ما يسمى الخدمة القومية، رغم وجود متدينات في الجيش والأجهزة الأمنية. ويرى هذا التيار أن دور المرأة في الاستيطان وفي التزايد الدمغرافي وفي تجذير قيم التضحية واعتماد الحياة البسيطة واعتماد شخصية  المرأة الباسلة "ايشيت حايل" المستوحاة من الشخصيات النسائية التوراتية.

لقد تميز المشروع الصهيوني في فلسطين بكونه في جوهره علمانيًا، رغم أنه منح حصة وازنة للتيارات الدينية واعتبر الدين اليهودي الأساس الجامع في مسيرة "بناء الأٌمّة" وفي مسألة اللغة والموقف من الأغيار وإعادة اعتماد التقاليد الدينية اليهودية كل ذلك بالاستناد إلى مفهوم "الوعد الرباني" ومفهوم "أرض إسرائيل"، ولذلك تم تخصيص هامش واسع سواء لتياري الحريديم والدينية الصهيونية على السواء. وقد قارنت العلوم الاجتماعية الاسرائيلية لاحقًا بين مكونات الشخصية اليهودية تبعًا لموجات "الهجرة" (علياه) اليهودية التي نظمتها الحركة الصهيونية إلى فلسطين بهدف ترسيخ مشروعها الاستيطاني. فإنْ كانت موجات الهجرة من شرق أوروبا في بداية القرن العشرين تقليدية ومحافظة، وفيها إقصاء لدور المرأة خارج حدود الأسرة والبيت، فقد انعتقت تلك النساء في إطار المشروع الصهيوني في فلسطين حتى وإن حضرت مع تقاليدها إلا أنها تغيرت بسرعة ولاءمت نفسها لمتطلبات المشروع الاستيطاني الاقتصادي والعسكري، بينما موجات الهجرة في سنوات الثلاثين وبالذات الأربعين من شرق ومركز وغرب أوروبا لم تكن تقليدية محافظة في نمط حياتها، بل تبوأت المرأة حيزاً هامًا في إطار العمل الانتاجي الزراعي والصناعي والعسكري أيضا وخدمت في وحدات النخبة من البلماخ وغيرها.. وهنا اختلفت شخصية المرأة اليهودية العلمانية في فلسطين.

تأتي هذه الخلفية المقتضبة لتشير إلى أنّ التحولات في المشروع الصهيوني الاستعماري رافقتها شخصية مختلفة لـ"لطلائع"، وما نشهده اليوم من الحضور البارز للمرأة الصهيونية دينية هو تأكيد بأن انقلاب الصورة والمشهد هو امتداد لانقلاب النخب الصهيونية وتحوّلها من الخلفية والهامش إلى مقدمة المشهد. وهذا يجد تعبيرًا عنه في الجيش وحصول حزب الصهيونية الدينية على حوالي العشرين بالمائة من أصوات الجنود في الانتخابات الأخيرة، وإلى زيادة نفوذ هذا التيار في كل قطاعات وشرائح المجتمع الاسرائيلي بما في ذلك التيارات العلمانية تقليدياً. إنه أيضا انقلاب في القيم ونمط الحياة والسلوك الاجتماعي في مرحلة يشهد هذا المجتمع اندفاعا نحو الفاشية. وما مشهد التدرب على إطلاق النار سوى ترسيخ لذهنية العصابات والمليشيات التي باتت تنتشر بتسارع كبير في النقب ومدن الساحل الفلسطيني وفي القدس والخليل وأنحاء الضفة الغربية. وهي ميليشيات مكشوفة تقرّ لها الدولة والجيش والشرطة وظيفية لا يستطيع المستوى الرسمي القيام بممارستها قانونيًا. وبالمجمل نحن بصدد تحول الذهنية العنصرية والعصابية إلى بنية فاشية تتعزز في قلب النظام الاسرائيلي الصهيوني حتى تقلبه. بل إنها انتعشت بقرار من اعلى المستويات الحاكمة: "كل من لديه رخصة سلاح، فهذا الأوان لحمل السلاح. متوقع منكم أن تفتحوا عيونكم. تحلّوا باليقظة وبالمسؤولية" هذا ما صرح به رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق نفتالي بنيت في الثلاثين من آذار 2022 وغداة عملية بني براك. بنيت هو من تيار الصهيونية الدينية الذي تزعمه سابقًا واليوم يتصدّر سموطريتش وبن غفير ونساء المسدّسات وبنية المليشيات واجهةَ المشهد.

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر