لا تلوموا الضحية .. حتى ولو طارت

رامون


  • الأربعاء 24 أغسطس ,2022
لا تلوموا الضحية .. حتى ولو طارت
رامون

ما هي حجتنا حين نحاجج فلسطيني أو فلسطينية من رام الله يريد السفر من مطار رامون في منطقة تمناع في النقب؟ هل نقول له إياك والسفر؟ أم أنه يشرعن الاحتلال والتطبيع معه؟ وقد تصل الأمور حد التخوين للفلسطيني الفرد. 

غالبية شعبنا في الضفة الغربية لا تستطيع السفر فإما لحواجز احتلالية وتصنيفاتها الاستخباراتية وإما لحواجز اقتصادية حيث بات السفر إلى خارج الوطن مسألة رفاه زائد لا يترك مكانًا للتفكير بالحق فيه. 

كل شعبنا في قطاع غزة محروم من السفر برًا وبحرًا وجوًا، معظم لاجئي شعبنا محرومون من الحق بالتنقل والحركة، وغالبيتهم لا ينتقلون من مكان إلى مكان إلا عند الكوارث وتكرار اللجوء إلى اللجوء الأبعد، لتصبح دروب العودة متاهات شبه مستحيلة التجاوز.

بعد اتفاقات أوسلو وفي مرحلة القناعات بأنها دولة، قامت دولة الاحتلال وفي أوائل غزواتها في هذه الحقبة بتدمير مطار غزة الدولي، وثبتت سيطرتها في منطقة قلنديا كي تزيل أية إمكانية لمطار فلسطيني، وحولت المكان الى سجن كبير (عوفر) وحاجز يسجن شعبا.

حاليًا وفي زمن اتفاقات السلام الإبراهيمي والسلام الاقتصادي وتقليص الصراع، فقد مَنّ المستعمر على ضحاياه بأن منحهم إمكانية السفر للخارج من مطار رامون على اسم الطيار إيلان رامون الفضائي الإسرائيلي وأحد قادة الهجوم على المفاعل النووي العرقي وتدميره في العام 1980. 

وإن كان المطار الجديد لا زال يعاني من شحٍّ من المسافرين اليهود، فقد ينقذه الزبائن الفلسطينيون، وهو يذكرني بأمرين؛ الأول هو حُجرة انتظار البوسطة في السجن حيث يتم تكديس الأسرى فيها وأحيانًا لا يكون مجال لأية حركة من كثرة اكتظاظ الاسرى الواقفين انتظارا للّا  - فرج. 

وإن نجح أحدهم في اشعال سيجارة قام بتهريبها ليتقاسمها مع زملائه ليزاحم دخانها الأسرى على المكان، وإن تضايق أحدهم فيتحول التوتر بين الأسرى بدلًا من صبّ غضبهم على السجان ودولة السجان والاحتلال، وحين يبدأ السجان ومعه رزمة ملفات الأسرى بالصراخ باسم الأسير كي يخرج مكبّل اليدين والرجلين إلى حافلة نقل الاسرى وصناديقها الحديدية التي يجلس فيها الاسرى قسرًا وهي لا تتسع لهم، فيخرجون من قيد الى قيدٍ أكثر قسوة.

 أما المشهد الآخر فهو المسافة الواصلة في جنوب إفريقيا ما بين ديربان الساحلية وبين بلدة أمانزمتوتو على بعد حوالي الأربعين كيلومترًا حيث أقمنا في المؤتمر الدولي ضد العنصرية (2001)، فتسير بك الحافلة أو التكسي وتظن انك في بلاد كل سكانها من ذوي البشرة البيضاء فلا ترى البشرات السوداء ولا بلداتهم ولا تلمح أي أثر لهم، إلا في خدمات المرافق العامة، بينما كانت التلال التي تبدو جميلة للأغراب، هي تلال اصطناعية لحجب التواصل بين بلدات وتجمعات شعوب جنوب إفريقيا السود ضحايا الفصل العنصري، وبين الحيّز العام التابع لهم أصلا.

 وهي تلال تذكّرنا بجدار الاحتلال الذي إذا نظرنا إليه في شارع رقم 6 مثلًا من داخل "الخط الأخضر" لرأيناه بارتفاع متر أو أقل ومكسوّ بالورود وأشجار الزينة، بينما لو نظر إليه ابن طولكرم لكان ارتفاعه ثمانية أمتار بكل القبح والقسوة وقتل الأفق، هكذا سيتم حشر الفلسطينيين في مطار رامون، خارج المشهد الاسرائيلي وداخله، وكي لا يزعج حضورهم أجواء التسيّد العِرقي في مطار بن غوريون.

لا تريد دولة الاحتلال للفلسطينيين من الضفة الغربية السفر عبر مطار اللد الذي أحالوه إلى مطار بن غوريون، فهو متاح فقط لفلسطينيي الـ48 والمقدسيين من حملة بطاقة الهوية الإسرائيلية وذلك إمعاناً في ضمّ القدس، وقد تتيح للبعض من عالم الأعمال والمسؤولين من حملة بطاقة VIP  من الضفة بالسفر منه. 

وفي ذلك يزداد تغييب الاحتلال عن الذهنية الاسرائيلية وتحجب الأنظار عما يحدث وراء "التلال" المذكورة آنفًا في جنوب أفريقيا، وعن مفهوم الجدار الاحتلالي والمشهدين اللذين يخلقهما. المسافة ما بين مطار رامون ورام الله ونابلس هي أبعد بكثير من المسافة ما بينهما وبين العاصمة الاردنيّة عمان. إلا أن المسافات في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال والاستعمار هي ذاتها المسافات الواصلة بينما فعليًا فقد أحالها إلى مسافات فاصلة في داخل الشعب وبينه وبين امتداده العربي. 

لنتخيّل مثلا أن المسافة بين حيفا وبيروت تكاد تكون ذاتها بين حيفا والقدس، لكنها تستغرق الى القدس ساعتين وإلى بيروت أربعة وسبعين عاماً ولا يزال الطريق طويلًا، وهي شبيه بالمسافة بين حيفا وغزة التي باتت خارج كل المتاح.

المسافة إلى مطار عمّان ليست بالبعيدة نسبياً، الا أنّ الفلسطيني مع جواز السفر الاسرائيلي يتجاوز معبر الشيخ حسين بعد إجراءت بسيطة لا تتجاوز النصف ساعة بالكامل وتشمل السفريات إلى الجانب الأردني، بينما يستغرق اجتياز الفلسطيني ابن الضفة لمعبر الكرامة (جسر اللنبي) ساعات من الفحص الاجرائي والأمني الاستخباراتي، ليشعر بالغضب والمهانة وهو لا يستطيع أن يفعل شيئًا سوى الانتظار وتحمُّل القهر إلى أن يتسنى له العبور. هل كُتِب على الفلسطيني أن يختار بين مهانة ومهانة؟

"لا تلوموا الضحية" هي مقولة درج يرددها إميل حبيبي في دفاعه عن فلسطين وشعبها وقيادتها في زمن انتهى، وقد أراد بذلك أن تبقى بوصلة الغضب والنقمة السياسية موجهة إلى الاحتلال ودولته. حين ندرك مصدر الغضب حسب هذه البوصلة، نتيح لأنفسنا نوعًا من فسحة هدوء داخلي إذ يتحوّل فيها الغضب الدفين تحت القهر إلى فعل ضد أساس البلاء ودولته. هل نلوم الناس العادية التي قررت ان تجرّب حظّها في السفر من مطار رامون ذي الوظيفة الاستعمارية العنصرية والاستغلالية وهي تهرب من مهانة إلى مهانة ولا من فصائل ولا قيادات ولا سلطة ولا حركة تحرر وطني توجّهها أو تبدي موقفًا متحدّيًا، ولا تعمل المستحيل لخلق البدائل الفلسطينية والعربية؟ وهو سؤال يذكّرنا بتصاريح العمل في المرافق الاسرائيلية والتي باتت أداة ضبط وسيطرة وقهر وإذلال، بل ومؤخراً باتت أداة للتهدئة ومن مقوّمات الهدنة. هل نتهم هؤلاء الفلسطينيين ضحايا الاحتلال وضحايا البؤس الفلسطيني والعربي بالتطبيع؟ كيف وعلى أيّ أساس. أيّة حاضنة سياسية او وطنية او قيادية او نحبويّة يوفّرها أيٌّ كان لهؤلاء. فلقد خلقت إسرائيل وباسناد عربي وعالمي وفلسطيني حتى، نخباً مستفيدة في كل المجالات، تمنحها فتات امتيازات كي تتساوق مع مشاريعها في تعميق الاحتلال وحتى الضم. فالمسافر الفلسطيني من مطار رامون هو جزئيًا ضحية هؤلاء أيضًا، كما أن العمال الفلسطينيين باتوا ضحايا أيضًا لمقاولي التصاريح، بينما بالأساس وبالجوهر ضحايا الاحتلال ودولته، وضحايا المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني العنصري في فلسطين.

كنت أتمنى ألّا أرى فلسطينيًا واحدًا يقبل بالسفر عبر هذا المطار القاهر، لكن اللوم ليس على الأفراد، بل على البؤس القيادي الفلسطيني في كل فلسطين. الذي من دور إسرائيل أن تسدّ أمامه وأمام شعبه كل فسحة أمل، بينما من دوره أن يعمل المستحيل كي يصنع الأمل لشعبه، فهل دوره مثلًا في أن يتغنّى بأسرى نفق الحرية، أم في شق الطريق إلى الحرية ومهما كان شاقّاً وصعبًا مع الاستعداد لدفع الثمن، وليس انتظار الثمن من الآخرين ليحصر دوره بالتغنّي والتمنّي.

شعبنا دائمًا يفاجيء، وما نيل المطالب بالتمنّي.

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر