من تقليص الصراع إلى تأجيله وعلامات السؤال الكبيرة؟

بايدن والقضية الفلسطينية


  • الأربعاء 20 يوليو ,2022
من تقليص الصراع إلى تأجيله وعلامات السؤال الكبيرة؟
بايدن

 

لم يتجاهل بايدن قضية فلسطين في لقاءاته الرسمية مع القيادات الاسرائيلية والفلسطينية ولا في غير الرسمية كما في خطابه في مستشفى أغوستا فكتوريا، إلا أن كل ما قيل قي هذا الصدد يتراجع امام تصريحه الجوهري بأنها غير قابلة للحل قريباً. كما أنه وضعها على جدول الأعمال بإحالتها إلى سياق التأجيل وسياق منظومة السلام الاقتصادي، وبالتالي كان متوافقاً مع الموقف الصهيوني الحاكم. إن الصيغة المواربة للحل والتي التي أتى بها بايدن بإعلانه إنه لا يزال "شخصيًا" مقتنعًا بحل الدولتين، الا أنه أعفى نفسه وإدارته ودولته العظمى من أي التزام لتوفير هذا الحل، بل أحاله الى توازنات القوى على أرض فلسطين بين احتلالٍ وشعب محتلّ في وطن محتلّ، وبدلًا من أن يتصرف كرئيس الدولة العظمى الاولى والأكثر نفوذًا على إسرائيل أيضًا، اختار لغة المحلل السياسي بتأكيده عدم إمكانية الحل قريبًا، وأمعن في ذلك بقوله أنه في حال توافقت الأطراف على الحل فعندها ستقوم الولايات المتحدة بدعوتها، وهذا بخلاف تام عن أوباما مثلًا، وهذا يعني أن الاحتلال العميق بات هو الوضع القائم أو "الستاتوس كوو" بما فيه الاستيطان والضم والتطهير العرقي في مناطق ج الخ. وعمليًا أعطى فرصة لإسرائيل لتعميقه، بل واستحضر جانبًا آخر فيه تغيير جوهري للاولويات العربية العلنية، والمقصود هو قلب "مبادرة السلام العربية" القائمة على التطبيع بعد السلام الإسرائيلي الفلسطيني وحل الدولتين، بينما دعى بايدن لقلب الأولويات في مبادرة السلام العربية، مدّعياً أنه بالإمكان التوصل للسلام حتى ضمن هذه الصيغة العربية وفي إطار التطبيع كوضع قائم وميسّر للحل ولتخفيف الصراع.

كل هذا لا يعني أن مثل هذه السياسة ستنجح لأن الشعب الفلسطيني يفاجيء ولا يمكن ضبط سلوكه ولا مقاومته ولا حركته الشعبية. وهو ما جرى قبل أشهر خلال مؤتمر النقب بين إسرائيل وقادة عرب، بتجاهل إسرائيلي تام لقضية فلسطين، بينما عادت فلسطين بقوة وعصفت بكل المساعي الاسرائيلية لتجاهلها، وهذا كما يبدو ما حصل في إطلاق الصواريخ من غزة خلال تواجد بايدن في المنطقة. من الجدير أيضًا عدم التسليم بقدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على حسم كل الأمور، إذ يكاد لا يوجد خطاب أمريكي - إسرائيلي للالتفاف على قضية فلسطين إلا وجرى استخدامه، فمن الحلول المرحلية الى حل مسائل وتأجيل المسائل الجوهرية، إلى الهدنة طويلة الأمد، وإلى خارطة الطريق، ومؤخراً جاء رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق نفتالي بينت بنظرية "تقليص الصراع" وهي امتداد منطقي لمشروع السلام الاقتصادي المبني على اللا- حل، بينما جاء بايدن مستخدماً ليعلن "تأجيل الصراع" أو بكلماته "إنني لا أزال أدعم حل الدولتين، رغم أنه من الواضح لن يحصل قريباً".

فلسطينياً، فقد كان من المهم التزام الإدارة الامريكية بتمويل وكالة غوث اللاجئين الاونروا، مقابل المساعي للقضاء عليها كخطوة للقضاء على قضية اللاجئين وعلى الاعتراف بوضعيتهم كلاجئين. على المستوى الرمزي والفعلي كان لافتًا الاعتراف الضمني بالقدس الشرقية بأنها ليست منطقة إسرائيلية، ورفض أية مرافقة اسرائيلية امنيّة كانت أم سياسية. إلا أن أكثر ما عكسه الجانب الفلسطيني من جولة بايدن هو هشاشة الحالة الفلسطينية وفقدان أية أداة ضغط باستثناء مساعي الاقناع ومخاطبة الرأي العام بدلًا من الضغط على بايدن والتأثير على أولويات إدارته. تجدر هنا الاشارة إلى مسألة واحدة لم يستطع تجنب الحديث عنها وهي اغتيال الشهيدة شيرين ابو عاقلة والتي اجتمعت فيها قوة ضغط فلسطينية شعبية ورسمية معًا وتحوّلت الى قوة ضغط عالمية وبالذات امريكية وفي الحزب الدمقراطي، وهذا دليل بوجود قدرات فلسطينية لو أتيح للشعب تحرير إرادته ومواجهة الاحتلال. أمّا الالتزامات المالية للمرافق الطبية رغم حاجة هذه المرافق لها وبالذات في القدس، ففيها عدم اعتراف بالاحتلال للقدس الشرقية وفيها عدم اعتراف بالحق الفلسطيني عليها، بينما لا تتعدّى هذه المساعدات حالة هي أقرب إلى العمل الخيري ذي الأجندة السياسية، ولا أقلل من شأنه الا لأنّه جاء عوضاً عن الجوهر، وقد تكون مساع أمريكية لزيادة نفوذها في القدس بالذات خارج إطار الاتفاق مع الفلسطينيين، ومن شأن هكذا نفوذ امريكي أن يعزز النفوذ الخليجي الاماراتي في المدينة بعد أن التزمت الأخيرة بناء على الطلب الامريكي، ولللإمارات قاعدة نفوذ سياسي فلسطيني ممثلة بمحمد دحلان ويبدو أن رهانها في الداخل في مناطق ال48 هو بالحركة الاسلامية الجنوبية والقائمة الموحدة وقد تكون قوى واصطفافات اخرى. هذا بالاضافة الى زج فلسطينيي الداخل مصلحياً في قبول الأحلاف الجديدة والاستفادة المباشرة من فتح المجال الجوي السعودي والطيران المباشر لأداء مناسك الحج. إلا أن هذه الالتزامات لا تعزز بأي شكل لا من وضعية السلطة الفلسطينية ولا م.ت.ف التي لا تزال ضمن قوائم "الارهاب" الامريكية، بل جاءت على حساب حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. هذه الأمور من شأنها أن تقلق الجانب الأردني الذي سيتضرر وضعه في المقدسات في القدس، وسيتضرر اقتصاديًا من إمكانية تلاشي حركة الحجاج السنوية عبر أراضيه.

 في المحصلة جاء بايدن ليعزز "السلام الاقتصادي"، وليسخّر نفوذ الولايات المتحدة في هذا المسار وهو ما يعزز تحالفه مع دولة الاحتلال. لقد حذّر الرئيس محمود عباس في كلمته في بيت لحم من "اأها قد تكون الفرصة الأخيرة أمام حل الدولتين" قاصداً بذلك الضغط على بايدن، إلا أن الضعف الفلسطيني لا يشكّل أداة قوة للضغط بها على الدولة العظمى. كما كان لافتًا العجالة التي استعجل فيها عدد من القيادات السياسية الفلسطينية باللجوء إلى هذه المقولة للتصعيد الكلامي بشأن الحلول. إلا أنه تبقى حقيقة أن لا تتأتّى المخارج الفلسطينية من المأزق والأفق المحدود من أولويّة الانشغالات والاجتهادات في ديباجات الحلول، وإنما في أن تكون الأولوية لتحويل الإحباط الشعبي إلى غضب سياسي شعبي للحرية ولإنهاء الاحتلال. طاقات شعب فلسطين الكفاحية هي الحاسمة والقادرة على التأثير في موازين القوى وفتح الطريق نحو الأفق. ما يحتاجه الشعب هو توفير بيئة فلسطينية مؤاتية لانطلاقته المتجددة. وقد تكون هذه هي الفرصة الأخيرة أمام القيادات الفلسطينية وليس الحاكمة وحدها وليس في رام الله وحدها بل أيضا في غزة، بل أمام مجمل الحركة السياسية والفصائلية لإنقاذ المصداقية وتوثيق العلاقة بالشعب. فلدى شعب فلسطين وحده القدرة على حسم الأولويات وجدول الاعمال السياسي الفلسطيني والعربي والعالمي.

"البشائر" لإسرائيل بالدمج غير مضمونة النتائج

في المقابل أتى بايدن بالبشائر لإسرائيل بتكرار خطة المساعدات العسكرية بـ38 مليار دولار لعشر سنوات والسارية منذ أيلول 2016 في عهد اوباما، ومليار إضافية لتعزيز منظومة القبة الحديدية التي تآكل مخوزنها خلال العدوان على غزة، والتي تم إقرارها في العام الفائت، إضافة إلى التعاون الوثيق في تطوير منظومة مضادات الليزر، وكذلك بتصريحه بأنه صهيوني وتأكيد التزام بلاده بأمن اسرائيل بينما الأهم تأكيد بلاده بإدراج إسرائيل في منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)، والتي تشرف على العمليات العسكرية والعلاقات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ودمج إسرائيل أيضا في حلف اقتصادي غير مضمون النتائج هو I2U2 (الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات) في مسألة الأمن الغذائي باستخدام المال الإماراتي والخبرات والمستثمرين الاسرائيليين والبنية الزراعية الهندية والتسيّد الأمريكي. كما جاء بايدن بخطاب اندماج إسرائيل في المنطقة وخلق سياق ومنظومات لهذا الدمج في إطار سلسلة من الأحلاف العالمية الإقليمية العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية التجارية، ضمن تحديد الولايات المتحدة لحلف الأعداء ونفوذه في المنطقة والعالم وهما الصين وروسيا، بينما لا تزال الإدارة الأمريكية تعطي الأولوية لاحتواء الملف الإيراني من خلال الدبلوماسية والاتفاق، وخلق محور إقليمي إسرائيلي عربي هدفه التخلص من "وكلاء إيران" ونفوذها في أربع بلدان هي لبنان والعراق واليمن وسوريا. ناهيك عن المسألتين الاستراتيجيتين بالنسبة للولايات المتحدة وهما النظام الاقتصادي والمالي العالمي والأمن الغذائي، الناتجان عن تداعيات الحرب في أوكرانيا وأثرها على مجمل النظام العالمي والامريكي. بناء عليه هنالك تغييرات طرأت في الاستراتيجية الأمريكية القائلة بالانسحاب التدريجي العسكري المباشر من المنطقة، وإقرار بايدن بأن الولايات المتحدة باقية ونفوذها باق بل وفعليًا سيتعمق على شاكلة شبكة الأحلاف والسعي لخلق مسارات التفافية على منظموة الدول المصدرة للنفط أوبك. إسرائيلياً ورغم اخفاق اسرائيل في إيجاد أي حليف عربي مستعد للمواجهة مع إيران نيابة عنها، فقد جاءت مسألة حرب الأطراف (بروكسي) توخّياً لخلق نوع من التقاء المصالح. من الدلالة على إعادة الإدارة الأمريكية النظر في استراتيجيتها، هو أنه قبل سنتين دعت الولايات المتحدة حلفاءها العرب لترتيب أمورهم الإقليمية استعدادًا لتخفيض الحضور الأمريكي العسكري، وكانت محادثات إماراتية ومن ثم سعودية مع إيران وكان التقارب الاماراتي السوري. لقد سعت إدارة بايدن إلى التلويح بصفقة مع السعودية مفادها زيادة إنتاج النفط اليومي مقابل التصعيد مع إيران إرجاء الاتفاق معها، إلا أنها اكتشفت أن مصالح دول الخليج الحقيقية قد تنوّعت عناوينها، وأن أولوياتها جميعًا هي التفاهمات والتعاون بصيغة معينة مع إيران وروسيا والصين. كما أن تعليق كل آمال أنظمة هذه الدول على الولايات المتحدة في مرحلة تحوّل في النظام العالمي بات مخاطرة كبرى.  

الانتقال إلى حرب الاطراف

بعيدًا عن صخب زيارة بايدن، فقد تعاملت وسائل الإعلام الإسرائيلية كخبر إجرائي عابر مع قرار المستشارة القانونية للحكومة بالمصادقة على استمرار وزير الحرب غانتس في إجراءاته في ظل حكومة مؤقتة وفترة انتخابات، لتسمية قائد الأركان الجديد والذي من المفترض أن يباشر مهامه أوائل العام 2023. ما لفت النظر في هذا السياق ليس القرار وإنما التبريرات المنمّقة بشأن حيوية التعيين؛ "من المتوقّع أن يشكّل العام 2023 بداية مرحلة استراتيجية جديدة".[i] إن احد السناريوهات المحتملة في هذا الصدد هو تغيير جدي في الأولويات الاسرائيلية، والتحوّل من المواجهة الحربية المباشرة مع ايران، إلى البدء من الحلقة الأوسع قبل الوصول إلى ايران. وهي عقيدة عسكرية ليست بجديدة إلا أنها باتت أكثر راهنيّةً. يتماشى هذا الاحتمال مع دراسة تفصيلية أعدها لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى، يقترح خلالها الجنرال أيال زمير[ii] المرشح من ضمن ثلاثة لتولي منصب رئيس الأركان حربًا مستدامة ومتعددة الأدوات والأدوار والأبعاد والجبهات والأساليب مع إيران واستخدام كل الأدوات الممكنة بشكل تكاملي ومُدمَج، والوقوف في وجهها كحلف وائتلاف لعدة دول معنية كلٌّ منها من باب مصالحها العليا، كما ويقترح أن يكون الهدف إعادة نفوذ ايران إلى حدودها الإقليمية فقط لا غير، والحيلولة دون أي نفوذ اقليمي. بناءً عليه يقترح زمير ايلاء اولوية متقدمة لتسديد الضربات الساحقة لـ"وكلاء ايران" او ما يطلق عليه "بروكسي". وهذا يعني احتمالية حرب في الجبهة الشمالية لفلسطين مع حزب الله في لبنان، خاصةً وأنّ منسوب التوتّر يتعاظم مع قرب بدء تشغيل اسرائيل لمنشأة كاريش للغاز الطبيعي.

هناك قناعات في اوساط واسعة في المؤسسة الصهيونية الحاكمة بأن حرب البروكسي من شأنها ان تخلق مصالح لدول عربية وبالذات خليجية للاندماج فيها بقيادة اسرائيل. وتنطلق هذه التقديرات من الهجمات الصاروخية الحوثية على منشئات أرامكو في السعودية وتعطيلها لفترة، او الهجمات الصاروخية على مطار ابو ظبي. الا أنّها من الحروب التي قد تضبط فيها اسرائيل موعد هجومها لكن لا يمكنها التحكم بنتائجها، والأمثلة كثيرة.

أن كثرة الخطط الاستراتيجية والتغييرات الحاصلة في الاولويات الامريكية والاسرائيلية هي مؤشر للسعي لملاءمتها للمتغيّرات، وفي المقابل لتعثّرها نوعاً ما، وهذا لا يقلل من جدّيتها ولا من خطورتها. بينما تعثّرها البنيوي والأكبر هو أن قضية فلسطين لا يمكن تجاوزها ولا إخفائها ولا الاستعاضة عنها بسلام المستعمر، وهذه ينبغي ان تكون رسالة فلسطين.

 

. . .
رابط مختصر



مشاركة الخبر